أخلاقيات الطبيب ـ الشيخ الطبيب محمد خير الشعال

الثلاثاء 01 تشرين الأول , 2019 12:50 توقيت بيروت مقالات فكريّة

الثبات - مقالات فكرية

 

أخلاقيات الطبيب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"أبتي الحبيب: تسألني إن كنتُ بحاجة إلى نقود، فأخبرك بأني عندما أخرج من المشفى سأحصل على لباس جديد وخمسِ قطع ذهبية، حتى لا أضطر إلى العمل حال خروجي مباشرة، فلست بحاجة إذن إلى أن تبيع بعض ماشيتك، ولكن عليك بالإسراع في المجيء إذا أردت أن تلقاني هنا.

إني الآن في قسم معالجات تشوهات المفاصل والعظام بقرب قاعة الجراحة وعندما تدخل من البوابة الكبيرة، تعبر القاعة الخارجية الجنوبية وهي مركز الإسعافات الأولية العامة حيث أخذوني بعد سقوطي، وحيث يذهب كل مريض أولَ ما يذهب لكي يعاينه الأطباء المساعدون وطلابُ الطب، ومن لا يحتاج منهم إلى معالجة دائمة في المستشفى تعطى له وصفته فيحصل بموجبها على الدواء من صيدلية الدار.

وأما أنا فلقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة وعرضوني على رئيس الأطباء، ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فمنحني حماماً ساخناً وألبسني ثياباً نظيفة من المستشفى، وحينما تصل ترى إلى يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاب، وإذا ما نظرت وراءك يقع نظرك على ممر يؤدي إلى قسم النساء، ولذلك عليك أن تظل سائراً نحو اليمين، فتمر بالقسم الداخلي والقسم الجراحي مروراً عابراً.

فإذا سمعت موسيقى تنبعث من قاعة ما، فادخلها وانظر بداخلها، فلربما كنت أنا هناك في قاعة النقة حيث تشنف آذاننا الموسيقى الجميلة ونمضي الوقت بالمطالعة المفيدة.

واليوم صباحاً، جاء كالعادة رئيس الأطباء مع رهط كبير من معاونيه، ولما فحصني أملى على طبيب القسم شيئاً لم أفهمه، وبعد ذهابه أوضح لي الطبيب أنه بإمكاني النهوض صباحاً وبوسعي الخروج قريباً من المشفى صحيح الجسم معافى.

إني والله لكاره هذا الأمر، فكل شيء هنا جميل للغاية ونظيف جداً: الأَسِرَّة وثيرة وأغطيتها بغاية النعومة والبياض كالحرير، وفي كل غرفة من غرف المشفى تجد الماء جارياً فيها على أشهى ما يكون، وفي الليالي القارسة تُدفأ كلُ الغرف وأما الطعام فحدّث عنه ولا حرج، فهناك الدجاج أو لحم الماشية يُقدم يومياً لكل من بوسعه أن يهضمه.

إن لي جاراً ادّعى المرض الشديد أسبوعا كاملاً أكثر مما كان عليه حقيقةً، رغبةً منه في التمتع بشرائح لحم الدجاج اللذيذ بضعة أيام أخرى، ولكن رئيس الأطباء شك في الأمر وأرسله بالأمس إلى بيته بعد أن اتضح له صحةُ المريض الجيدة بدليل تمكنه من التهام دجاجة كاملة وقطعة كبيرة من الخبز وحده.

لذلك تعال يا أبتي وأسرع بالمجيء قبل أن تحمّر دجاجتي الأخيرة..."

 

هذه رسالة أرسلها مريض في مشفى عربي إلى أبيه قبل ألف سنة، عَثَرَت عليها المستشرقة الألمانية / زيغرد هونكه/ وأودعتها في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب).

في الفصل الثاني من الكتاب التي تتحدث فيه عن المشافي، وعنونت للفصل بقولها: (مستشفيات مثالية وأطباء لم يرَ العالم لهم مثيلاً).

الطب علم وفن، موضوعهما علاج المرض أو منعه، وكلاهما أعني – العلم والفن- إن لم يحاطا بالأخلاق تحوَّل الأول: إلى سباق تسلُّح يدمر الكرة الأرضية عدداً من المرات، وتحَّول الثاني: إلى سباق تهتُّك يزري بالبشرية لتهوي إلى مستوى الطبقة الدنيا من المخلوقات. من هنا كانت أهمية (أخلاق الطب).

ولئن كانت البُرديات المصرية القديمة تحدثت عن أخلاق الطبيب، ولئن كان قَسَمُ أبو قراط الذي لا يزال يُقسم به – مع بعض التعديلات التي أدخلت عليه- حاوياً على شيء من آداب المهنة، فإنَّ المادية الساحقة في القرن الأخير أكَّدت ضرورة الحديث عن أخلاقيات الطب وأدب المهنة.

كما قالوا في الأدب: إنـما الأمم الأخلاق مـا بقيت... فـإن همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا

 

أسس أخلاقيات الطب ستةٌ

 

 أولاً: الـنفع وتـقديم الـفائـدة

مبنى العمل الطبي عموماً على نفع الناس وتقديم الفائدة لهم والإحسان إليهم فالطبيب الذي يوقف المرض أو الذي يساعد في المحافظة على تقوية الصحة يقدم نفعاً وفائدة لمرضاه.

طبيب الأسنان الذي يساعد في تحسين الناحية الجمالية أو الناحية الوظيفية للأسنان إنما يقدم فائدة ونفعاً لمرضاه.

وبالمناسبة حجم الإنسان عموماً على هذه الأرض بحجم النفع الذي يقدمه للآخرين، وكلما كان هذا النفع أكثر وأكبر وأطول استمراراً كانت قيمة هذا الإنسان أعلى وأغلى وأرفع، والعكس بالعكس.

ثانياً: عدم الإضرار

يقولون: إذا لم تنفع فلا تضر، وهذه قاعدة شرعية وقانونية وحياتية، وهي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "لا ضرر ولا ضرار"

ومطلوب في أخلاقيات الطب من الطبيب عدم الإضرار بمرضاه،

ثالثاً: كتمان الـسر

العلاقة الخاصة بين الطبيب ومريضه تطلعه على أسرار تخصّ المريض سواء في حالته الصحية أو في حالته العامة.

وإنَّ الأدب العام والأدب الطبي الخاص يدعو الطبيب إلى كتمان سر مريضه احتراماً له ورعايةً لشأنه ما لم يكن في كتمان السر ضرراً يفوق ضرر إفشاء السر.

فنعود مرة ثانية إلى القاعدة السابقة التي تدخل فيها عامة فروع الطب وهي: تحمل الضرر الأقل لدفع الضرر الأكبر

فليس من كتمان السر – مثلاً – أن يخفي الطبيب حالة المريض الصحية الخطرة والحرجة عن أهل المريض، بل مطلوب منه أن يُعْلم أهل المريض بحالة مريضهم، وربما يرى الطبيب مصلحة في إعلام المريض نفسه بالأمر.

وفي بعض الأحيان يكون كتمان السر في حالة المريض الخاصة عن أهله وذويه مطلوباً والأمر راجع إلى الضرر الأقل والضرر الأكبر، ونحن نتحمل الضرر الأقل لندفع الأكبر.

وحفاظاً على كتمان السر لا يجوز لطبيب أن يعرض حالة مريض على سلايدات ونحوها في قاعات الدرس إلا بعد أخذ موافقة المريض صاحب الحالة أو إخفاء معالم المريض الدالة عليه.

رابعاً: الــعـدالة

والمقصود بها التوزيع العادل للخدمات الصحية على امتداد مساحة الوطن بل على امتداد البسيطة والمعمورة، وهذا أملٌ تنشده أخلاقيات الطب لولا ما يعكره من تسلط لدولٍ غاشمةٍ ظالمة على شعوب مستضعفة.

خلال السنة الأولى من الاحتلال الأمريكي للعراق دُمّرت 84% من جامعات العراق وهُجِّر أو قُتل 75% من الكادر التعليمي من أساتذة ومحاضرين.

 ويمنع الاحتلال الإسرائيلي وصول الأدوية والأغذية إلى الفلسطينيين، ويقصف من الجو والأرض سيارات الإسعاف وسيارات تحمل الحليب للأطفال.

العدالة في أخلاقيات الطب تدعو إلى تقديم الخدمة الصحية للناس عامة سواء كانوا فقراء أو أغنياء، أصحاب جاه أو بسطاء، أقارب أو أباعد.

 خامساً: الاستقلالية والذاتية

والمراد بها أن لا يُعَرَّض المريض البالغ الراشد العاقل إلى إجراء طبي إلا بناءً على موافقته وقراره، إلا في حالات الإسعاف التي يغيب بها المريض عن الوعي أو يكون إدراكه فيها غير كامل، ويغيب عنه ذووه وأقاربه.

وينوب عن المريض في القرار إذا كان صغيراً أو غير عاقل وليُ أمره من أرحامه.

وبناء على هذا الأساس الخُلُقي في الطب لا يجوز إخضاع مرضى إلى دراسات دوائية أو علاجية أو جراحية إلا بعد أخذ إذنهم وموافقتهم.

ولعله من المناسب في حالات معينة أن تكون هذه الموافقة خطية يحتفظ بها الطبيب في سجلات المريض وإضبارته.

سادساً: المسؤولية الطبية

 يعتبر الطبيب مسؤولاً أمام المريض وأمام القانون وأمام رب العالمين عن كل إجراء يفعله، هذا وإن القوانين النافذة لا تُضمِّنُ الطبيب إذا تعرض مريضه لضرر إذا كان الطبيب يمارس اختصاصه ولم يُقصِّر ولم يتعد، أما لو قصَّر أو تعدى أو أنه عمل في غير اختصاصه فإنَّه يضمن ويُحاسب.

إن لم يكن في الدنيا فلا شك أنَّه سيحاسب في الآخرة.

 

جزء من محاضرة الشيخ الطبيب

محمد خير الشعال في المؤتمر السنوي السابع عشر

في مشفى الأسد الجامعي


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل