رمضان يعلمنا الصبر ـ فضيلة الشيخ علي جمعة الأزهري

الثلاثاء 05 أيار , 2020 04:43 توقيت بيروت مقالات فكريّة

الثبات - مقالات فكرية 

 

رمضان يعلمنا الصبر

فضيلة الشيخ علي جمعة

 

يعلمنا رمضان الصبر، ويجعله خلقاً مستديماً لمن صام رمضان إيماناً واحتساباً، الصبر في اللغة: الحبس، ويختلف معناه باختلاف حرف الجر والظرف المستعمل مع هذه الكلمة فهناك الصبر في الله، والصبر بالله، والصبر إلى الله، وهناك الصبر مع الله، ومن المذموم الصبر عن الله والعياذ بالله تعالى، وقد ألف ابن القيم الجوزيه كتاباً مفرداً لتفصيل شأن الصبر وعظيم آثاره في الدنيا والآخرة، وأسماه [عِدَة الصابرين وذخيرة الشاكرين] أي بيان ما وعد الصابرون به.

وقد أمرنا الله بالصبر، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقال سبحانه: {وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وهو مأمور به عند مواجهة المعتدين، قال تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، ويجعل الله الصابرين في معيته، فيقول سبحانه: {َاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين}.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر نفسه بأخبار من سبقه من إخوانه الأنبياء عليهم السلام فعن عبد الله: "أن رجلا قال لشيء قسمه النبي صلى الله عليه وسلم: ما عدل في هذا. فقال: فقلت والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال يرحم الله موسى قد كان يصيبه أشد من هذا ثم يصبر" [رواه ابن حبان]. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار: "فاصبروا حتى تلقونى على الحوض" [رواه ابن حبان].

ويعظم أجر الصابرين خاصة في آخر الزمان، فصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "فإن وراءكم أيام الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين يعمل مثل عمله" [أخرجه الحاكم في المستدرك].

وتحدث الآية القرآنية عن جزاء الصابرين بصورة جعلت الخيال عاجزا عن تصور ذلك الجزاء، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].

واعلم أن الصبر على ستة أقسام وهو في كل قسم منها محمود:

فأول أقسامه وأولاها:

الصبر على امتثال ما أمر الله - تعالى – به، والانتهاء عما نهى الله عنه; لأن به تخلص الطاعة، وبها يصح الدين وتؤدى الفروض ويستحق الثواب، كما قال في محكم الكتاب: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر :10]، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد" [رواه أحمد].

وليس لمن قل صبره على طاعة حظ من بر ولا نصيب من صلاح، ومن لم ير لنفسه صبرا يكسبها ثوابا. ويدفع عنها عقاباً، كان من سوء الاختيار بعيدا من الرشاد حقيقا بالضلال، وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: يا من يطلب من الدنيا ما لا يلحقه أترجو أن تلحق من الآخرة ما لا تطلبه. وقال أبو العتاهية رحمه الله تعالى: أراك امرأ ترجو من الله عفوه وأنت على ما لا يحب مقيم تدل على التقوى وأنت مقصر فيا من يداوي الناس وهو سقيم وهذا النوع من الصبر إنما يكون لفرط الجزع وشدة الخوف فإنَّ من خاف الله - عز وجل - وصبر على طاعته، ومن جزع من عقابه وقف عند أوامره.

القسم الثاني:

من أنواع الصبر التي يذكرها الشيخ الماوردي الشافعي: الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده الحزن عليها، أو حادثة قد كده الهم بها فإن الصبر عليها يعقبه الراحة منها، ويكسبه المثوبة عنها، فإن صبر طائعاً وإلا احتمل همّا لازماً وصبر كارها آثما. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: يقول الله تعالى: "من لم يرض بقضائي ويصبر على بلائي فليختر ربا سواي" [الطبراني في الكبير]. وقال علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- للأشعث بن قيس: إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور.

وقد ذكر ذلك أبو تمام في شعره فقال:

وقال علي في التعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم

أتصبر للبلوى عزاء وخشية ... فتؤجر أو تسلو سلو البهائم

 

وقال شبيب بن شيبة للمهدي: إن أحق ما تصبر عليه ما لم تجد إلى دفعه سبيلا وأنشد:

ولئن تصبك مصيبة فاصبر لها ... عظمت مصيبة مبتل لا يصبر

وقال آخر:

تصبرت مغلوباً وإني لموجع ... كما صبر الظمآن في البلد القفر

وليس اصطباري عنك صبر ... استطاعة ولكنه صبر أمر من الصبر

 

القسم الثالث:

من أنواع الصبر التي يذكرها الشيخ الماوردي الشافعي: الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خرق وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فغفر وظلم فاستغفر فأولئك لهم الأمن وهم مهتدون".

القسم الرابع:

من أنواع الصبر التى ذكرها الشيخ الماوردي الشافعي: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها فلا يتعجل هم ما لم يأت، فإن أكثر الهموم كاذبة وإن الأغلب من الخوف مدفوع، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بالصبر يتوقع الفرج ومن يدمن قرع باب يلج". وقال الحسن البصري رحمه الله: لا تحملن على يومك هم غدك، فحسب كل يوم همه.

القسم الخامس:

من أنواع الصبر التي يذكرها الشيخ الماوردي الشافعي: الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها، وينتظر من نعمة يأملها فإنه إن أدهشه التوقع لها، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب واستفزه تسويل المطامع فكان أبعد لرجائه وأعظم لبلائه. وإذا كان مع الرغبة وقورا وعند الطلب صبوراً انجلت عنه عماية الدهش وانجابت عنه حيرة الوله، فأبصر رشده وعرف قصده.

القسم السادس:

والأخير الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف، فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء، فإن من قل صبره عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه، وقد قال الله تعالى: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن استطعت أن تعمل لله بالرضى في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً". واعلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر مستأصل الحدثان، والجزع من أعوان الزمان.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال "التمسوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله فان لله   نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم" [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه].

فاحذر أيها المسلم أن تقضي ساعات صيامك في الجو الإبليسي بحجة تسلية الصيام، سلي صيامك بذكر الله، والدعاء واعلم أن الله حرم عليك ما أباحه في غير الصيام من الطعام والشراب والشهوة المباحة، فمن باب أولى أن تتجنب ما حرمه عليه ولم يبحه في وقت من الأوقات كالنظر إلى المحرمات والإثارة والضجيج هناك وهناك.

ويعقب الله آيات الصيام بآية الدعاء، قال تعالى : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة :186]، وفيها إشارة ربانية لطيفة إلى مكانة الدعاء بصفة عامة، ومكانته في رمضان بصفة خاصة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "للصائم عند فطره دعوة مستجابة" [رواه النسائي].

ولا يخفى على مسلم ما يحدث لأمتنا من إهانة وظلم وقتل، وانتهاك للحرمات، وتدنيس للمقدسات، فينبغي لكل مسلم أن يتذكر المستضعفين من إخوانه المسلمين في فلسطين وفي العراق، وفي كل مكان ويدعو لهم بالنصر والتمكين والأمن والاستقرار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل