الحكم العطائية .. "مَنْ بُورِكَ لَهُ في عُمُرِهِ أدْرَكَ في يَسيرٍ مِنَ الزَّمَنِ مِنْ مِنَنِ اللهِ تَعالى ما لا يَدْخُلُ تَحْتَ دَوائِرِ العِبارَةِ وَلا تَلْحَقُهُ الإشارَةِ"

الخميس 09 تموز , 2020 05:58 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - التصوف 

 

الحكم العطائية 

"مَنْ بُورِكَ لَهُ في عُمُرِهِ أدْرَكَ في يَسيرٍ مِنَ الزَّمَنِ مِنْ مِنَنِ اللهِ تَعالى ما لا يَدْخُلُ تَحْتَ دَوائِرِ العِبارَةِ وَلا تَلْحَقُهُ الإشارَةِ"

 

لو تأمّلت في تاريخ البشر لوجدت الملايين يعيشون سنوات طويلة دون عمل ينفع أو علم يبقى أو سجية تؤثر، فتكاد حصيلة عمره صفراً، فلا نفع ولا انتفع، وبعضهم يكون عمره شراً عليه، وأسوأ منه من يكون عمره شراً عليه وعلى الآخرين، فيصنع في كلِّ ساعة من عمره مأساة أو محنة للآخرين.

وآخرون أعمارهم قصيرة، ولكنهم حفروا في ساعاتها ذكرى طيبة، وللذكر الطيب للإنسان عمر ثانٍ، ونقشوا مع كلِّ حركة من عقارب الساعة علماً نافعاً، أو رحماً موصولاً، أو صدقة جارية أو إحساناً إلى الخلائق، أو أعمالاً مجيدة، أو بطولات يشاد بها بين الخلائق.

والبركة عرفها العلماء بأنَّها: خير الله عز وجل في الشيء، أو الخير الإلهي يظهر في الشيء، وأن يبارك الله في الشيء معناه أن يجعل فيه الخير.

والبركة أيضاً تأتي مع الإخلاص، فإذا أخلصت لله عز وجل في عمل يبارك الله فيه، فتعمل العمل اليسير أحياناً، ثم تنساه فيبارك الله عز وجل فيه، فتجده بعد سنين وقد أصبح عملاً كبيراً نافعاً تنصح به ولداً أو شخصاً، أو تصلح به شيئاً، أو تتصدق بصدقة يسيرة، ثم يبارك الله في عملك المحدود حتى يصبح شيئاً كبيراً من حيث لا تدري ولا تحتسب! هذا من بركة العمر وكرم الله المحض الذي لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة.

والإمام ابن عطاء الله في هذه الحكمة يقول: "ربّ عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورُب عمر قلت آماده واتسعت أمداده"، و"اتسعت آماده" أي أعداد سنينه، أي كثرت السنين وطال العمر، و(قلت أمداده) أي قلت بركته، أي المدد والخير من الله سبحانه وتعالى فيه، أي أنَّ الشيخ يقول: رُبَّ عمر طويل ولكنه قليل البركة، والعكس صحيح، فرُبّ عمر قصير ولكنَّه كثير البركة والخير.

ثم يقول: "فمن بُورك له في عمره، أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة"، ومعنى هذا الكلام أنَّك لا تستطيع أن تحصى أو تحصر ما يحصل من نعم الله تعالى في عمر قليل ولكنَّه مبارك.

-هذا المسيح عليه السلام بلغ عمره 33 عاماً فقط، صنع فيها كلّ معاني الإحياء المادي {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِى الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}، والإحياء المعنوي، فقد أنقذ البشرية من الحقد والأثرة والأنانية وجفوة الطباع ودعاوى الانتقام، وأصلح القلوب وحارب التدين الشكلي وأعلى قيمة الإنسان، ونشر التواضع والعبودية الخالصة لله.

- وهذا رسول الله عليه الصلاة والسلام  أسّس أعظم دين في 23 عاماً فقط هي عمر البعثة، وربى أعظم جيل، وأنشأ خير أمة وأقام العدل والحق، وحول أمة العرب من أمة ضائعة ممزّقة إلى أمة هزمت الفرس والروم، وتصدّرت الحضارة العالمية.

- أمَّا يحيى بن زكريا «يوحنا المعمدان» فكان عمره 30 عاماً، وكان «سَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياً من الصَّالِحِينَ»، وصدع بالحق وتحدى الظلم ونشر الهداية وبلغ الرسالة.

- أما أبوبكر الصديق، فقد استطاع في عامين ونصف، هي عمر حكمه، أن يؤدب مانعي الزكاة، ويحفظ للفقراء حقوقهم، ويعيد للدولة هيبتها وقوتها بعد تمرد المرتدين، وأن يجمع الناس جميعاً على قلب رجل واحد بحكمته وعدله ورحمته وحزمه.

- وعمر بن الخطاب استطاع في عشر سنوات أن يقيم قواعد العدل والشورى في الداخل، وأن يكسر شوكة أعظم دولتين في التاريخ الفرس والروم، ويرسخ فقه الدولة الذي لم يكن واضحاً قبله، ويسنّ ما يسمى بـ«أوليات عمر» ويحقق الموازنة الصعبة بين قوة الدولة وقوة المجتمع.

- أمَّا الإمام علي الخليفة العظيم، فقد أسس فقهاً كاملاً، وهو قتال أهل البغي مثل الخوارج، وهو الذي نام في فراش الرسول وصاحب أعظم البطولات، فضلاً عن العلم والحكمة والزهد والورع كل ذلك وغيره فعله في 59 عاماً.

- أمَّا عمر بن عبدالعزيز، أسطورة الإسلام، فقد أحيا سنن العدل وإحقاق الحقوق وردّ المظالم في عامين ونصف، ما يعجز أي حاكم عنه، حتى تصالح الذئب مع الغنم في لحظات مبهرة من التاريخ، ويعم الرخاء حتى أصبح الغني يحتار أين يضع زكاته، فضلاً عن زهده وعزمات الحق والخير التي لم يستطع غيره أن يقوم بها في تواضع مذهل وسماحة عجيبة.

- أمَّا الإمام الشافعي فعاش 54 عاماً ابتكر فيها علوماً جديدة أهمها علم أصول الفقه.

- وحجة الإسلام الغزالي عاش أيضاً 54 عاماً ترك فيها أعظم تراث علمي وفقهي وصوفي وأصولي ويكفيه «الإحياء» حتى قيل: "ليس من الأحياء من لم يقرأ الإحياء".

- والإمام النووي عاش 45 عاماً وعمره كله بركة، فهناك آلاف الكتب مثل: رياض الصالحين، ولكنَّها اندثرت ليبقى كتابه الذى لم يختلف عليه أحد ويدرسه الجميع، وكذلك شرحه لصحيح مسلم.

- إنَّها أمداد السماء التي أمدت هذه الأعمار القصيرة، فباركت لحظاتها وساعاتها، وحولت كلِّ لحظة منها إلى نور يهدي الكون ويضيء الأرض، إنَّها بركة العمر يهبها الله للمصطفين من عباده.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل