الحكم العطائية .. "سَوابِقُ الهِمَمِ لا تَخْرِقُ أَسْوارَ الأَقْدَارِ"

السبت 05 أيلول , 2020 02:08 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - التصوف

 

الحكم العطائية

"سَوابِقُ الهِمَمِ لا تَخْرِقُ أَسْوارَ الأَقْدَارِ"

 

يعزم أحدنا على فعل عبادة من العبادات، أو التحرك نحو شأن من الشؤون بكل قوة وعزيمة ثم يفاجأ بانصرافه عنه وربما نسيانه هل سألت نفسك لماذا؟، ويسعى أحدنا في تحقيق مصلحة ويأخذ بكافة الأسباب المتاحة، ثم لا يتحقق له ما يريد. على الرغم من عدم التقصير. فهل سأل نفسه لماذا أيضا؟

هنا الجواب في هذه الحكمة العطائية: "سَوابِقُ الهِمَمِ لا تَخْرِقُ أَسْوارَ الأَقْدَارِ"

الهمم: جمع همة، والهمة هي النشاط والنية في العمل والحركة، هذه الهمة حتى لو كانت سابقة، حتى لو كانت من سوابق ومعالي الهمم، فهي لا تخرق قدر الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.

فهناك أقدار لله سبحانه وتعالى لن نستطيع أن نخرقها ولو ارتفعت الهمم، وهذه الأقدار هي سنن الله في كونه الذي خلقه متسقاً معها، وقال: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}، وقال: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً}.

فمن سنن الله تعالى: أنَّه خلق الحياة بنظام معين وخلق لها ظروف معينة تترتب عليها نتائج معينة، ولا يستطيع المسلم ولا غير المسلم أن يخرق هذه الأسوار مهما كان، أو أن يصل إلى النتائج دون المسببات والخطوات والظروف ونواميس الكون!، فمثلًا قال سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}؟ هذه سنة الابتلاء، وهي من سنن الله تعالى في الناس، أي إذا ادعيت الإيمان والصدق فإنَّ الله عز وجل سيبتليك، ولا تستطيع أن تتجاوز الابتلاء ولو علت الهمة، ولو حاولت أن تهرب، لأنَّ هذه من سنن الله وقوانين الكون.

كن عن همومك معرضاً ... وكلِ الأمور إلى القضـــا

وابشر بخير عــاجـــــــل ... تنسى به ما قد مضــى

فلربَ أمــــــر مسخــــــــــط ... لك في عواقبه رضـــــــــــا

* * *

ولربما ضاق المضيــــق ... ولربما اتسع الـفضـــــــــا

الله يفــعل ما يشــــــــــــاء ... فــــــــــــلا تـــكن معترضـــــا

الله عودك الــجميــــــــــــــل ... فقس على ما قد مضى

ومن سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه: قضية الوقت والتدرج، فالوقت شيء خلقه الله سبحانه وتعالى للبشر يدركونه كلٌّ حسب علمه، ولكن الوقت لا يجوز على الله سبحانه وتعالى، ليس لله قبل ولا بعد ولا عنده زمان كذا أو ساعة كذا، هذا الشيء لا يجوز على الله سبحانه وتعالى وإنما هو للبشر، ومن سنن الله تعالى في الكون ومن طبائع الأشياء أن تأخذ الأهداف وقتاً حتى تنجز، لا نستطيع أن ننقل العالم من حال إلى حال في لحظة، ولا تستطيع أن تغير نفسك في لحظة، ولن تستطيع أن تغير الأشياء من حولك في لحظة، هذا لن يحدث، فمن استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه كما يقول الفقهاء. وإنما لابدَّ من العمل الدؤوب، ولابد من التدرج، ولابدَّ من الوقت.

هذه من أسوار الأقدار التي يتحدث عنها الشيخ، وقد يصيب الإنسان الذي يريد أن ينقل نفسه أو يغير العالم في دقائق، قد يصيبه اليأس؛ لأنَّه لم يدرك هذه السنّة، أنَّ لله سبحانه وتعالى له في خلقه أقدار هي أسوار ليس في القدرة البشرية تجاوزها أو تخطّيها، ومن أسوار الأقدار التي ينبغي للمسلم أن يضربها على نفسه أحيانًا، ما يسميه العلماء بـواجب الوقت، أي أنَّ هناك مرحلة من حياتك لابدَّ فيها أن تعتني بالصغار أو الكبار مثلاً وتهتم بشئونهم بشكل قد يستوعب الكثير من وقتك وجهدك، وهناك مرحلة من حياتك لابدَّ أن تعمل عملاً دؤوبا حتى تكتسب مالاً لتتزوج مثلاً، وهناك مرحلة من حياتك لابدَّ أن تسافر فيها، ويقتضي واجب الوقت عليك أن تتغرب، أو يقتضي الوقت عليك أن تتفرغ لتحصيل العلم، أو يقتضى الوقت عليك أن ترتاح إذا مرضتَ مثلاً لا قدر الله، ولا تستطيع في هذه الأمثلة وغيرها أن تخرق أسوار الأقدار، لا تستطيع أن تتصرف بعد المرض كما كنت قبل المرض، أو بعد السبعين كما كنت قبل الأربعين مثلاً، هذه كلها من أسوار الأقدار ومن مراعاة واجب الوقت.

ولابدَّ أن تراعي واجب الوقت حسب ما تعلمه أنت من نفسك، فتعلم أنَّ من واجب الوقت في هذه المرحلة من حياتك أن تتفرغ للعلم وللمذاكرة وللتحصيل مثلًا، وأن تبتعد عن كلِّ ما يشغلك؛ لأنَّ هذا هو واجب الوقت، أو تعلم أنَّ أولادك في ضائقة مثلًا وواجب الوقت أن تساعد الأولاد وأن تضع من الجهد والوقت أكثر مما هو معتاد، لأنَّ واجب الوقت اقتضى عليك أن تساعد الأخ أو الأب أو الأم أو الأخت أو الصغيرة.

وإذا تفرغت من هذا كله فلعل واجب الوقت أن تتفرغ للعبادة، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، ولن تخرق أسوار الأقدار في ذلك أيضاً. فلعلك تقول: أنا عندي من الوقت ما يسمح أن أحفظ القرآن، لكنك لن تحفظ القرآن في يوم ولا في شهر، وإن حفظته في شهر فستنساه في شهر، وإنما لابدَّ أن تأخذ واجب الوقت وتراعي سنن الله في خلقه.

هذه السنن الإلهية وهذه القوانين الكونية لا تستطيع أن تحطمها بل هي التي قد تحطمك إن عارضتها. إذا أردت أن تقف أمام قوانين الكون وسنن الله عز وجل في الكون، فاعلم أنَّ هذه السنن سوف تتعبك إنَّ هذا الدين متين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "فأوغل فيه برفق"، أي حتى اكتساب الدين له مراحله؛ لن تستطيع أن تتعلم كلَّ الدين، أو تمارس كلَّ الدين، يعني تنتهي من كلِّ الواجبات والمندوبات في يوم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فإنَّ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى": أي أنَّ الذي يأخذ الدابة ويسافر بها ليل نهار لا يتوقف ولا يستريح ولا يعتبر بسنن الله ولا بأسوار الأقدار، هذه الدابة ستفنى حتى لو علت الهمة! وقال صلى الله عليه وسلم: "لا أرضاً قطع"، أي لم يقطع المسافة المطلوبة، "ولا ظهراً أبقى"، أي لو كان هذا الظهر دابة حقيقية فستموت الدابة، ولو كان هذا الظهر هو أنت بجسدك المحدود، فسينهار هذا الجسد، وهذه الحكمة ترشدنا إلى التوازن بين الهمة وبين القدر، بين ما تهم به وتتمنى أن تفعله بالكون وبين (أسوار الأقدار) وسنن الله عز وجل، وواجب الوقت، كما مر.

 

سلـــــم أمورك للحكيم العالـــــــــــــم ... وأرح فؤادك من جميــــــــع العالـــم

واعلم بأنَّ الأمر ليس كما تشاء ... بل ما يشاء الله أحكم حاكـــــــــــم


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل