درس تركي لسياسيي النظام اللبناني ــ أحمد زين الدين

الثلاثاء 10 تشرين الثاني , 2020 11:49 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

بات واضحاً أن نظامنا السياسي مولد ومنتج للأزمات، كأننا نعيش في جمهورية موز، ففي تجارب لبنان السياسية، كان على الدوام من يستقوي بالخارج ليعزز نفوذه ومكاسبه في الداخل، وكان هناك من يجيد توزيع الأدوار واللعب على الحبلين.
آخر هموم الطبقة السياسية اللبنانية هي القضية الوطنية والقضية القومية، لأنه تهيمن على البلد طبقة رأسمالية طفيلية لا نعرف كيف بدأ وتكون رأسمالها؟!
منذ أن كان لبنان صغيراً ثم كبيراً كانت عمليات البيع والشراء عند السياسيين، ومن الأمثلة على ذلك، أنه في العام 1920م عند إعلان دولة لبنان الكبير، وعندما جمع الملك فيصل في الشام المؤتمر السوري كان هناك يوسف نمور عضواً في المؤتمر السوري فيما كان شقيقه موسى عند الفرنسيين ومن أشد أنصارهم في البقاع.
وكان أسعد حيدر عضواً في المؤتمر السوري ونجله عضواً في اللجنة الاستشارية الفرنسية في لبنان.
وكان إسكندر عمون مع الإنكليز وشقيقه داود مع الفرنسيين، فيما بعد كانت رجل كميل شمعون في فلاحة الإنكليز ورجله الأخرى في بور الفرنسيين إلخ ...
وإذا كان للفرنسيين "بمكرمة نبيلة" كما يقول إسكندر رياشي، "هي أنهم لم يفضحوا الذين انقلبوا فيما بعد، بل أرسلت المفوضية الفرنسية سنة 1940م أوراقها وسجلاتها تحرقها في أتون النار في هضاب بيت مري كي لا تقع في أيدي الذين يأتون بعدها .. ومن هذه الأوراق ذلك السجل الذهبي الذي يتضمن أسماء جميع الذين كانوا يخدمونها ويبيعونها البلاد بالخفاء بينما يتظاهرون أمام الناس بالنزاهة والوطنية المستقلة التي لا تتقبل انتداباً".
ومن مذكرات الجنرال الفرنسي دانتز، الذي كان يشغل مركز الحاكم العسكري في لبنان أيام الحرب العالمية الثانية، يقول: "لقد كنت أمثل حكومة فيشي في لبنان وكنت على تواصل مع المخابرات الألمانية، لكنني في السر كنت أخدم تحت قيادة ديغول من أجل أن أحرر فرنسا من الاحتلال الألماني ... ولكن ما كان يذهلني هو الطبقة السياسية في لبنان حيث كانوا يتوافدون إلى مكتبي لإعلان الوفاء والتأييد لحكومة فيشي وللألمان، وكانت تقاريرهم تصل إلى مكتبي ومجملها يركز على اتهام بعضهم بالعمالة لبريطانيا وديغول؟، وبالمقابل عندما كان يأتيني البريد السري من ديغول كنت أفاجأ أن نفس الأشخاص يراسلون ديغول لإعلان الوفاء والولاء لفرنسا الحرة ولديغول، ويتهمون بعضهم بعضاً بالخيانة والتبعية لحكومة فيشي!".
أضاف دانتر: "لقد كانوا يستلمون المال من الجميع، ويبيعون كل شيء، وعندما نسألهم عن مطالبهم يكون جوابهم نريد لبنان سيداً حراً مستقلاً!.
وهنا أسأل نفسي: إذا رحلنا عنهم فلمن سيبيعون بضاعتهم لكي يقبضوا".
ويقول الصحافي الراحل إسكندر رياشي: "هذا الفساد مستأصل منذ زمن بعيد، منذ عهد الأتراك، عندما كان بعض أهالي هذه البلاد يستعملون كل طرق الإرضاء والتملق لكسب عواطف أسيادهم العثمانيين وبدرجة حاذقة ووسيعة جداً، حتى لا نقول إنهم ألقوا دروساً على الأتراك في فن الرشوة والارتشاء والاستثمار".
يتابع: "خلال الحرب العالمية الأولى عندما حكم العثمانيون جبل لبنان مباشرة بعد أن ألغوا امتيازاته، رأينا هؤلاء الأتراك في جبل لبنان عن كثب يأتوننا في البداية رجالاً مستقيمين إنسانيين، وينقلبون بعد حين إلى وحوش كاسرة وفاسقين وسارقين وحرامية، وذلك عندما كنا نفتش عن كسب رضاهم بكل ما عندنا من حيل، وبكل ما عندنا من سبل وطرق للإغراء، ولا أريد أن أقول إن الكثيرات من الحسان كن في رأس أنواع ذلك الإغراء مما يجري في بلاد يدخلها القوي ويحكمها فاتحاً، ولكن ما بولغ فيه أثناء الحربين الكبيرتين، هو أن العدد الأكبر من مئات الحسان كن يصلن إلى أسرة الأسياد والحاكمين الأتراك، ومن بعدهم الفرنسيون والإنكليز والأسترالية عن طريق الحنان الأبوي".
وفي عهد شمعون دخلت كل المنافسات الدولية إلى الأرض اللبنانية، وصار الدفع والقبض علناً، لكن ضمن نطاق ضيق، حتى الدول الكبرى كانت تشتري الذمم بالسر، ومثال على ذلك ما يرويه اسكندر رياشي عن أن الأميركيين قرروا شراء الذمم للتجديد لشمعون، فخصصوا عشرة ملايين دولار لهذه الغاية.
لكن أحداً لم يعرف أن الأميركيين هم الذين يقومون بالبيع والشراء، لأن الجميع تصوروا أن العراق هو من  يقوم بهذه المهمة، لكن السفير العراقي في بيروت كشفها من دون أن يدري وينتبه، حينما كان يعتذر عند مقام عال قريب جداً من شمعون، ويقول مجيباً رداً على سؤال: "كان من الواجب أن يصل اللازم هذا الأسبوع، ولكن الأمريكان تأخروا في دفع باقي العشرة ملايين دولار".
كان الأميركيون كما يؤكد اسكندر رياشي "يريدون أن يبرأوا أنفسهم من تهمة التجديد لشمعون، ولهذا أرادوا أن يصبغوا هذه العشرة ملايين دولار صباغاً عربياً محضاً، فيساعد في الحقيقة العراق في التجديد بمال يلبس رداءاً عراقياً، في الوقت الذي كان فيه مالاً أميركياً ألفاً بالألف".
وفي زمن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م واتخاذ القرار الإسرائيلي بانتخاب بشير الجميل رئيساً صوِّرت الأمور وكأنها اختيار داخلي، رغم واقع ميزان القوى ... فدبر أمر انتخاب بشير عربياً ودولياً من خلال سفر الرئيس المنتظر إلى الطائف، ودولياً من خلال الضغط الأميركي، من دون أن يغيب عن البال وسائل الترغيب والترهيب لانتخاب بشير الجميل الذي حصل في  ظل الدبابات الاسرائيلية.
أمين الجميل تصور نفسه أنه بطل الأميركيين، فارتكب خطيئته من واشنطن "بأن مدافعه سترتد إلى دمشق" فانهار مع اتفاق 7 أيار، وتسبب بانهيار الليرة اللبنانية.
في العام 1988م عرقل انتخاب رئيس جديد للبلاد، بفعل التدخلات الأميركية والإقليمية .. وتصور الجميع أن الأبطال الداخليين هم وراء ذلك، لأنه كان مازال هناك بعض الحياء .. وبعد الطائف، كان "الوحي" ينزل على نواب "الأمة" لكن مع كثير من السرية والحياء . في هذه الأيام كل شيء صار في العلن، مجلس الأمن، وأمين عام الأمم المتحدة، صار له دور في انتخاب رئيس لبنان، الإدارة الأميركية كلها من رأسها حتى أصغر موظف في الخارجية الأميركية صار يتدخل في التفاصيل الصغيرة والكبيرة .. والسفير في بيروت، يناقش هذا، ويطلب من ذاك، ويعرقل هنا، ويأمر في مكان آخر .. وزير خارجية فرنسا كان يخيم في بيروت مع مبعوث له، ويحاول أن يوفر حلاً ما، الاتحاد الأوروبي بوزراء خارجيته وسفرائه ومندوبيه . . التدخل صار علناً، بلا أي حياء أو خجل . . واللبنانيون ينتظرون "الوحي"  . . لكن من أين سيأتي . . ؟.
في زمن الوصاية السورية كان الكل يحجون إلى عنجر والبوريفاج ليحظوا برضا ضابط مخابرات، ماذا تغير؟
اليوم: تصوروا يطبلون للعقوبات الأميركية، يبررون للسفيرة الأميركية تدخلها في الشؤون الداخلية اللبنانية، حبذا لو يستفيدون من تجارب وأمثلة التاريخ، حبذا لو يعرفون تجربة الضابط النمساوي الذي خان بلاده لمصلحة نابليون بونابرت.
دعونا لا نبعد كثيراً، ونعطيهم آخر درس وتجربة في الانتماء الوطني، وهي تجربة من المعارضات التركية، فقد تحدث الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن عن أردوغان بأنه ديكتاتوري مستبد، وسيعمل حال فوزه على اقصائه ومساعدة المعارضة على التخلص منه.
لكن المعارضة التركية بتنوعها علقت على هذه التصريحات.. رافضة هذا التدخل الأميركي، فقال: ‏محرم إنجه النائب عن حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية رداً على بايدن بالقول: "تغيير الحكومة في تركيا ليس من عملكم وهو أمر يتعلق بالأمة التركية". 
‏وكتب أحمد داود أوغلو رئيس "حزب المستقبل" التركي المعارض: "في هذا البلد الأمة التركية فقط هي من تقرر من يأتي إلى الحكم ومن يذهب من الحكم، نحن لا نعترف بأي قوة خارج إرادة أمتنا".
"‏زعيم حزب "السعادة" التركي تمل قره مولا أوغلو قال: "تركيا تدار من داخل تركيا، لن نسمح لكم برسم سياسة بلادنا، مهما كانت مشاكلنا كبيرة نحلها فيما بيننا، نمتلك الخبرة والأهلية والتجربة لذلك، انتبهوا أنتم لمشاكلكم الخاصة".
حبذا لو تأخذ معارضات لبنان هذا الدرس جيداً، فلا تبيع وتشتري بناء لعقوبة العم سام، أو وشوشة من سفيرة واشنطن، أو كرم سعودي وغيرها ... . 

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل