السيد محتشمي الذي فقدناه

الإثنين 14 حزيران , 2021 08:42 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

منذ أن وصل الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني إلى منفاه الجديد في مدينة النجف الأشرف في العراق عام ١٩٦٥ كنتُ وأنا في عمر الـ ١٢ عاماً تقريباً في عداد المشاركين في استقباله، وبسبب صغر سنّي والحشد الكبير من مستقبليه وقعت العمامة الصغيرة عن رأسي وسُحبت عباءتي، لكن صغر سنّي ساعدني في أن أكون الوحيد الذي استطاع الوصول إلى الإمام الخميني وهو يزور مرقد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بعد ما اُخلي له من الزوار احتراماً له وإجلالاً لمقامه.
ولما استقر الإمام في النجف سارع عدد قليل من عشاقه في مختلف المدن الإيرانية للقدوم إلى هناك كي يكونوا معه إلى جانب طلبهم للعلوم الدينية في الحوزة العلمية.
كان السيد علي أكبر محتشمي من أولئك القلة الذين شدّهم حبهم ليهاجروا من طهران ويقطنوا في جوار الإمام علي عليه السلام ويكونوا عوناً للإمام الخميني في مسيرته الإسلامية الثورية في وقت قلّ الأنصار وكثر المناوئون، وكنت أنا رغم صغر سنّي من جملة المعدودين من أتباع الإمام الخميني رغم انتمائي إلى أسرة مرجعية دينية عريقة، ونتيجة قلة الأوفياء لمسيرة الإمام كانت العلاقة وطيدة بيننا والتواصل دائماً واللقاءات شبه يومية خاصة أثناء المشاركة في صلاة الجماعة ظهراً ومغرباً بإمامة الإمام الخميني رضوان الله عليه.
بعد انتقالي إلى بيروت في العام ١٩٧٦ كان منزلي في شارع الإمام علي في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية مكاناً لتلاقي المناضلين الذين كانوا يفدون إلى لبنان بمناسبات مختلفة، حيث كان الشهيد محمد منتظري والسيد محتشمي يترددان عليّ كثيراً ونجتمع للتداول في شؤون الثورة، وننطلق لتأسيس علاقات مع الوسط الإعلامي ومع الأطراف الفلسطينية والقوى التقدمية اللبنانية يومذاك.
وأذكر هنا أني اتفقت مع الأخ العزيز الأستاذ حسن صبرا على نشر موضوع عن الإمام الخميني في مجلة " القومي العربي " التي كانت تصدر قبل مجلة " الشراع "، وذلك في خضم الحصار الإعلامي اللبناني على مسيرة الإمام الخميني، وكان السيد علي أكبر محتشمي يومذاك في بيروت، فتعاونت أنا وإياه، وكتبنا موضوعاً عن شخصية الإمام الخميني ومسيرته وأهدافه ونشرنا حقائق عن نظام الشاه محمد رضا بهلوي وعمالته للإستكبار الأمريكي وتحالفه مع الكيان الصهيوني، وقد نُشر الموضوع كاملاً مع صورة للإمام الخميني على كامل غلاف المجلة، وكانت المرة الأولى التي تُنشر فيها صورة للإمام الخميني بهذا الشكل على غلاف مطبوعة لبنانية.
ولما كان الدخول إلى لبنان في بعض المراحل متعذراً كنتُ أذهب إلى الحدود اللبنانية في " المصنع " واستغل علاقتي الشخصية مع بعض الضباط هناك وأُدخل الإخوة المناضلين إلى لبنان ثم أرافقهم للخروج إلى سوريا.
وأذكر أن السيد محتشمي أراد مرة القدوم إلى لبنان من سوريا وترافقنا معاً إلى " المصنع " ولم يرضَ الضابط الموجود هناك التعاون معي لتمرير السيد محتشمي، لكن أحد العاملين هناك قال لي: انتظر قليلاً حتى ينتهي دوام هذا الضابط وسأساعدك على عبور زميلك، وفعلاً انتظر السيد محتشمي حوالي ساعة حتى انتهى دوام ذلك الضابط، واستغل صديقي في الأمن العام عبور شاحنة وأشار للسيد محتشمي ليعبر دون أن يلتفت إليه أحد وقدم إلى بيروت وبقي في منزلي أياماً ثم غادر بنفس الطريقة التي دخل فيها.
لما قرر الإمام الخميني مغادرة العراق بعد الضغوط الحكومية عليه لثنيه عن إصدار البيانات المحرضة والعمل ضد نظام الشاه، وبعد أن مُنع من دخول الكويت رغم حصوله على تأشيرة، كان هناك من بين الخيارات الحضور إلى سوريا كونها لا تتطلب تأشيرة مُسبقة، ولينتقل الإمام من هناك إلى لبنان حيث مركز مهم للإعلام في المنطقة يومذاك، ولذلك ذهبت أنا والسيد محتشمي والشهيد محمد منتظري إلى مطار دمشق وانتظرنا الرحلة القادمة من بغداد لعلها تحمل الإمام الخميني، ولأننا لم نجرؤ على التصريح باسم الإمام فصرنا نسأل القادمين: هل كان في الطائرة شخص يلبس عمامة سوداء ؟.
وبعد أن تأكدنا من عدم قدوم الإمام على الرحلة، وبعد التواصل مع بيت الإمام في النجف، علمنا أنه قد توجه نحو فرنسا لأنها أيضا لم تتطلب تأشيرة للجوازات الإيرانية.
ووصل الإمام الخميني ولم تنتبه سلطات مطار " أورلي " في باريس لشخصية الإمام الحقيقية كون اسمه في الجواز " روح الله مصطفوي " وكانت الشهرة " الخميني "، فدخل الإمام إلى باريس ولم تعرف السلطات بوجود الإمام في البلد إلاّ بعد تقديم جيران المنزل الصغير الذي أُعدّ له في الطابق الثالث في بناية بمنطقة " كاشان " في العاصمة شكوى للشرطة لأن كثرة الزائرين من الطلاب الإيرانيين المتلهفين لرؤية الإمام الخميني قد تسببت في انزعاجهم، وذلك من دون أن يعرف الجيران شيئاً عن حقيقة القادم الجديد.
وفي اليوم الثاني لوصول الإمام الخميني إلى العاصمة الفرنسية سافرتُ أنا والسيد محتشمي إلى هناك، فلم يكن إلى جانبه في الأيام الأولى إلاّ ثلاثة أو أربعة أشخاص فقط، وقمت أنا باتصالات مع بعض أصدقائي من الصحافيين في لبنان لإجراء مقابلات مع الإمام الخميني، وفي مقدمهم الأخ العزيز الأستاذ حسن صبرا، وصرتُ بعد ذلك مسؤلاً عن المقابلات الصحفية وقسم من لقاءات الإمام مع الشخصيات العربية، وكان السيد محتشمي واثنين آخرين مسؤولين عن تأمين الإتصال الهاتفي بين الإمام الخميني مع مختلف الشخصيات في إيران ونقل المعلومات من الداخل الإيراني إلى الإمام.
وبقيت أنا والسيد محتشمي والقلة من الإخوان في رفقة الإمام الخميني حتى عدنا معه إلى إيران يوم ١ شباط ١٩٧٩، فكان السيد محتشمي أيضاً مسؤولاً عن قسم الإتصالات في مكتب الإمام الخميني المستحدث في مدرسة " رفاه " القريب من مدرسة " علوي " مقر إقامة الإمام.
ولما انتقل الإمام الخميني إلى مدينة " قم " بعد تعيينه مهدي بازرگان رئيساً للحكومة المؤقتة تم تعيين السيد محتشمي إلى جانب الشيخ توسلي مسؤولاً عن لقاءات الإمام، ورغم إصرار المرحوم السيد احمد الخميني كي أبقى في إيران إلاّ أنني فضّلت العودة إلى بيروت والعمل من هناك لصالح الثورة الإسلامية، وللحديث عن هذه المرحلة نحتاج إلى تفصيل خارج عن موضوعنا الآن.
وقام الإمام الخميني بتعيين السيد محتشمي واثنين آخرين ممثلين عنه في الإذاعة والتلفزيون الإيرانيين للإشراف على البرامج فيهما، فلما تعين الدكتور محمد هاشمي شقيق المرحوم الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيساً للمؤسستين مكان صادق قطب زاده، لم تتوافق الآراء بينه وبين اللجنة المشرفة، فاستقالت اللجنة وانتقل السيد محتشمي إلى مكتب الإمام في مدينة " قم ".
في إحدى زياراتي إلى قم دعاني السيد محتشمي إلى منزله للغداء، وهناك قال لي إن السيد احمد الخميني اقترح عليه أن يكون سفيراً في سوريا، وفوراً رحّبتُ بالفكرة وأبديت استعدادي لتقديم كل مساعدة له لينجح في مهمته، وفعلاً أخبرت القائم بالأعمال السوري في طهران بالأمر وهو أكد أن موافقة السلطات السورية مضمونة حتماً، وكان تعيين السيد محتشمي سفيراً في دمشق.
لقد سبق هذه المرحلة أن تمّ تكليفي بعدة مهام من قبل مؤسسات في إيران حيث كنت المسؤول عن مكتب " حزب الجمهورية الإسلامية " في بيروت، وممثلاً عن مجلس قيادة الثورة الإسلامية في لبنان، ومسؤولاً عن تنسيق الإعلام الإسلامي في الشرق الأوسط، ومهام أخرى لا أجد ضرورة لذكرها.
لما قدم السيد محتشمي إلى دمشق وكان في ذلك الوقت دور السفارة الإيرانية فيها هامشياً جداً، وكان النشاط الأكثر في السفارة في بيروت، وكان قد تمّ لتوّه تعيين الشيخ فخر روحاني سفيراً للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان، وهو في أول لقاء معه أبدى الإستعداد للتعاون الكامل والتام معي في أي شيء اراه مناسباً، لأنه لم يكن على اطلاع بالساحة اللبنانية أصلاً، لكنني فضّلت التعامل مع السيد محتشمي بسبب علاقتنا الوطيدة ولأني كنت وعدته بدعمه عند مفاتحته لي بالأمر.
مع الإجتياح الصهيوني للبنان عام ١٩٨٢، واحتلال العاصمة بيروت، وحضور قوات من الحرس الثوري والجيش الإيراني إلى سوريا في طريقهما للمشاركة في مقاومة العدوان، بدأ دور السفارة الإيرانية في سوريا يكبر خاصة بعد إعلان أمين الجميل قطع العلاقات مع إيران ومغادرة السفير الإيراني الشيخ فخر روحاني بيروت.
لقد كان العبء الأكبر لنشاط الحرس الثوري والجيش الإيراني على عاتقي لأن السفارة الإيرانية في دمشق لم تكن مهيّأة للقيام بهذا الدور الكبير، ولم تكن علاقات السيد محتشمي قد توطدت مع السلطات السورية بعد، ومن الناحية المادية كانت لدي الإمكانات الكبيرة حتى قبل أن تصل الأموال للحرس الثوري والجيش الإيراني، فكان عليّ تنظيم المسيرات إلى السيدة زينب، ومراسم يوم القدس العالمي في دمشق وبعلبك، والمشاركة المسلحة في صلاة الجمعة بالمسجد الأموي، واللقاءات مع مندوبي سرايا الدفاع بقيادة اللواء رفعت الأسد المكلفين بالتنسيق مع القوات الإيرانية التي استقرت أولاً في إحدى الثكنات في منطقة " المزة " ثم انتقلت إلى ""الزبداني "، قبل أن ينسحب الجيش الإيراني ويبقى الحرس الثوري ويتمدد شيئاً فشيئاً في لبنان ويقيم معسكراً في قرية " جنتا " القربية من بلدة " النبي شيث " البقاعية.
ولأني كنت قد وطدت العلاقة مع كثيرين من الإخوة العلماء في مختلف المناطق اللبنانية طوال سنوات إقامتي في منطقة البقاع وبيروت، وكنت أدعوهم إلى لقاء الوفود العديدة التي كانت تزور لبنان برفقتي، وبعد الغزو الصهيوني نقلت بسيارتي الإخوة الشيخ صبحي الطفيلي والسيد عباس الموسوي والشيخ محمد يزبك إلى دمشق عبر الطريق العسكري، وهناك اجتمعوا مع السيد محتشمي، وبعد الإجتماع تناولنا الغداء في منزلي هناك، وعدنا إلى بعلبك بنفس الطريقة، وكان هذا هو بداية التعامل بين عاملين في الساحة اللبنانية والسيد محتشمي سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سوريا.
لقد تمّ تشكيل لجنة الإنقاذ بإشراف المبعوث الأمريكي الخاص فيليب حبيب وشارك فيها الأطراف المتصارعة على الساحة اللبنانية، ونتيجة لذلك أعلن عدد من قيادات حركة " أمل " انفصالهم عنها، وكان أساس فكرة إطلاق إسم " حزب الله " على المجموعة الجديدة من قبلي، لأن مصطلح " حزب الله " في إيران يومئذ كان يعني العمل قربة إلى الله خارج الإطار التنظيمي المتعارف، ولا أدري هل لا تزال عبارة ' حزب الله " مكتوبة على مدخل مسجد الإمام علي عليه السلام في بعلبك ؟.
وكانت الإمكانات المالية المفتوحة الموضوعة تحت تصرفي من قبل الجمهورية الإسلامية نتيجة الثقة بي تجعلني أؤمّن النشاطات المختلفة سواء لدى السفارة في دمشق أو الحرس الثوري أو الإخوة اللبنانيين، ويوجد عندي وصولات وإثباتات على ذلك يمكن إظهارها عند الضرورة.
كان السيد محتشمي الصديق القديم، ورفيق درب النضال، والمخلص لخط الإمام الخميني هو الأخ الوفي سواء أثناء وجوده في السفارة في دمشق أو بعد انتقاله إلى موقع وزارة الداخلية والمسؤوليات الأخرى الرسمية، وكنت أثناء تواجدي في إيران أزوره مع عائلتي مراراً في منزله المؤقت الكائن في متطقة " سعد اباد " شمالي العاصمة طهران، وهو كان يزورني في منزلي المؤقت في طهران أو أثناء زياراته إلى بيروت، ونتبادل الرأي في مختلف الموضوعات الداخلية والخارجية، فكثيراً ما نتوافق وأحياناً كنا نختلف، لكن ذلك لم يؤثر أبداً في علاقاتنا الوطيدة.
لقد انتقل السيد محتشمي بعد وفاة الإمام الخميني ولأسباب لا فائدة لذكرها إلى النجف الأشرف واستقرّ مع عائلته هناك في منزل متواضع جداً ومن دون إمكانات لمواجهة الحرّ الشديد أيام الصيف، وكان يأتي إلى إيران بالمناسبات، وتسلم هناك بعد فترة أمور منزل الإمام الخميني الذي تمّ شراؤه وأعيد بناؤه، وكان يستقبل حشود الزوار الذين يتقاطرون لمشاهدة المنزل المتواضع جداً للإمام الخميني الذي فجّر أعظم ثورة في التاريخ الحديث ويشرح لهم بعض الخصوصيات له كونه كان الأقرب منه طوال فترة إقامته في النجف الأشرف.
لقد اضطر السيد محتشمي لإجراء عملية جراحية في عينه الوحيدة لأن الأخرى فُقدت نتيجة الإنفجار الذي وقع أثناء فتحه طرداً مفححاً أدى إلى بتر يده اليمنى وبعض أصابع يده اليسرى، وأظن أن آخر اتصال معه قبل إصابته بفيروس كرونا هو مكالمتي الطويلة معه والذي شرح لي بالتفصيل الآلام التي يعانيها والغربة الشديدة التي يشعر بها، وكان يتمنى الوفاة في النجف وأن يُدفن هناك، لكن سرعان أن أصابته الجائحة، وتفشى فيه الوباء بسرعة، وتمّ نقله إلى مدينة " كرمانشاه " أولاً ثم إلى " طهران "، لكن تقدير الله قد وقع وتوفاه الله على فراشه وهو قد اقترب مرات من الشهادة في سبيل الله.
واللافت أن الأفرقاء المختلفين في ميولهم وتوجهاتهم وخاصة في خضم الحملات الإنتخابية الحالية قد نعوا جميعاً المرحوم السيد علي أكبر محتشمي فكان هو القاسم المشترك حيث أبّنه بأفضل العبارات آية الله خامنئي والرئيس الشيخ روحاني والسيد محمد خاتمي والسيد حسن الخميني والدكتور ظريف وعدد كبير من العلماء الكبار والشخصيات الفاعلة.
فأسأل الله لأخي العزيز والرفيق الوفي الرحمة والرضوان وأن يجعل عاقبة أمري إلى خير وأنال رضاه في الدنيا ورضوانه في الآخرة إنه سميع مجيب.


السيد صادق الموسوي

 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل