إيران في الخليج: حرب عصابات على السطح

الإثنين 28 حزيران , 2021 10:46 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

"أوقف محركاتك. أخلِ السفينة. أنوي إغراقك"؛ آخر رسالة من كابتن المدمّرة "يو إس إس وينرايت" (USS Wainwright) إلى سفينة الهجوم السريع الإيرانية جوشان قبل إغراقها.

"يمكنها أن تفعل ما فعلت "إليو بوت" في الحرب العالمية الثانية"؛ قائد القوات البحريّة الإيرانية العميد حسين خانزادي متحدّثاً عن غوّاصات "غدير".

سنقوم في هذا المقال، بعد سردٍ تاريخي موجز، بعرض قدرات البحريّة الإيرانية النظامية والقوات البحريّة لحرس الثورة، في محاولة لوضعها في إطارها العمليّاتي، ومناقشة إمكانية استخدامها وتأثيرها في مفهوم الردع في الخليج؛ ساحة الصراع الرئيسي مع الولايات المتّحدة وحلفائها الغربيين والإقليميين، من دون الخوض في تفاصيل تقنيات التصنيع البحريّ وأنواع السفن.

عمليّة "فرس النبي"

تناولت في مقال سابق قصة عمليّة "فرس النبي"، كما سمّاها الأميركيّون، في العام 1988، ضد أهداف مدنيّة وعسكريّة إيرانيّة في الخليج، مع التركيز على حادثة إسقاط البحرية الأميركية الرحلةَ المدنيةَ رقم "655". هذه المرّة، سنتحدث عن الحوادث التي سبقت هذا الإسقاط. 

في 14 نيسان/أبريل من ذلك العام، اصطدمت فرقاطة البحريّة الأميركية "يو إس إس سامويل ب. روبرتس" (USS Samuel B. Roberts) بلغم بحري أثناء قيامها بمرافقة ناقلة نفط كويتيّة إلى خارج الخليج. جرى ذلك الحادث في إطار ما سمّي بـ"حرب الناقلات" بين العراق وإيران خلال المواجهة الطويلة بين البلدين. 

بعد أن قامت البحريّة الإيرانيّة بإعاقة تصدير النفط العراقي مروراً بمضيق هرمز، قام عراق صدّام حسين باستخدام ناقلات الكويت لتصدير نفطه، تجنّباً لتعرضه للهجمات الإيرانية المتكرّرة. لم يطل الأمر بالبحرية الإيرانية حتى بدأت بإعاقة تصدير هذا النفط نفسه، في محاولة للحد من عائداته الماليّة التي كان صدّام يغذّي بها ماكينته الحربيّة.

ألقت البحريّة الأميركيّة اللوم على الإيرانيين في هذه الحادثة، وقرّرت، كما جرت عادة الأميركيين، القيام بانتقام غير متناسب وصادم، لحثّ إيران على وقف حرب الناقلات، كما رأوا. كانت العمليّة تهدف بشكل أساسي إلى تدمير "الأسلحة على منصّتي رخش وسيري" النفطيتين في الخليج. الهجوم عبر مدافع البحريّة الأميركيّة تمكّن من تحييد هذه الأسلحة. كانت هذه المدافع من طراز "زد إس يو" من عيار 23 ملم، استخدمها حرس المنصّات للقيام بالدفاع بشكل بطولي عنها. وقد انتهى الأمر باستشهادهم. حاولت البحريّة الإيرانية آنذاك الردّ على هذه الاعتداءات من دون نتيجة تذكر، فلا القوة متناسبة، ولا التكنولوجيا متناظرة. في أحد الأحداث، قامت سفينة الهجوم السريع "جوشان" بمحاولة إغراق مدمّرة أكبر منها بمرّات، انتهت بإغراق الأولى. 

تعرّضت كلا الفرقاطتين "سهند" و"سبلان" لقصف من طائرات البحريّة الأميركية من "طراز إي-6 انترودر" (A-6 intruder)، أسفر عنه إغراق الأولى والإضرار بالثانية باستخدام قنابل موجهة بالليزر وصواريخ جوّ بحر. إضافة إلى ذلك، تضرّرت طائرة إيرانية من طراز "أف-4 فانتوم"، ولكنّها تمكّنت من الهبوط بسلام في بندر عباس، بعد أن أعطِبت بصاروخ "ستاندارد" أطلقته المدمّرة الأميركيّة نفسها التي دمّرت سفينة الهجوم السريع "جوشان".

حاولت إيران الردّ بضربات صاروخية عبر صواريخ من نوع "سيلك وورم" الصينيّة المتقادمة والبطيئة على سفن البحرية الأميركية، إلى جانب مضيق هرمز، من دون أي تأثير يُذكر، إذ تمّ اعتراض أغلبها باستخدام أنظمة الدفاع المدفعية والصاروخية النشطة، أو تضليله باستخدام "الشاف" (Chaff)، وهي أنابيب تحوي رقائق ألمنيوم عاكسة للموجات الرادارية والأهداف الوهمية. عضّت الجمهورية الإسلاميّة على جرحها بعد فقدان حوالى نصف قطعها البحريّة آنذاك وتضررها، ولكنّ هذه المواجهة حفرت عميقاً في وعي القوّات البحريّة الإيرانية. 

تحدّي الألفية 2002

في العام 2002، أجرت الولايات المتحدة الأميركيّة واحدة من أضخم عمليّات المحاكاة العسكرية، في الوقت الذي كانت طبول اجتياح العراق تُقرع. الهدف من هذه المحاكاة كان محاولة استشراف التحديات التي يمكن أن تواجه القوّات الأميركية في المستقبل، كما عبّر الكونغرس الأميركي. استغرقت المحاكاة سنتين من التحضير، وكلّفت حوالى 250 مليون دولار.

لم تتمّ تسمية خصم الولايات المتحدة المفترض في هذا التمرين، ولكن كان من المتعارف أن عليه أن يمثّل خصماً "عالم ثالثيّاً"، كالعراق أو إيران في ذلك الوقت، على الرغم من السماح لـ"الطرف الأزرق" (الأميركيّ) من الحصول على تكنولوجيا لن تدخل الخدمة حتى العام 2007. قائد "الطرف الأحمر" (OPFOR) كان جنرال المارينز الأميركي المتقاعد بول فان ريبر، والذي كان طرفاً مثاليّاً بالنظر إلى شخصيّته المخادعة والصلبة كمقاتل، كما عبّر باك كيرنان قائد القوات الأميركية المشتركة.

السبب الذي اشتُهرت بسببه هذه المحاكاة العسكرية، كان اتخاذ فان ريبر قراراً في اليوم الثاني، يقضي بأن "يستبق المستبقين"، ويقوم بالمبادرة إلى ضرب القطع البحريّة الأميركية الموجودة في الخليج، نظراً إلى معرفته بنظرة جورج بوش الابن عن الاستباقية في الهجوم.

في غضون 5 إلى 10 دقائق، بحسب تعبير فان ريبر، انتهى الأمر، إذ قام بإغراق 16 قطعة بحريّة من القوات الزرقاء: حاملة طائرات، 10 طرادات بحريّة، و5 من أصل 6 مركبات إنزال برمائية. تمّ ذلك باستخدام مزيج من التكتيكات، عبر الاستهداف بموجات من صواريخ جوّالة مضادة للسفن تطلق من البر والبحر والجوّ، وجرى إغراق القسم الثاني من الأسطول باستخدام موجات من الزوارق الصغيرة المفخّخة، وكانت حصيلة العمليّة من الخسائر تُقدر بحوالى 20 ألف عسكريّ أميركيّ. قامت هذه التكتيكات بإغراق رادار منظومة "الآيجيس" (AEGIS) بعددٍ هائلٍ من الأهداف. ساد الصمت في غرفة العمليّات للحظات قبل أن يعلن قائد الفريق الأزرق فان ريبر: "أغرق بحريّتي اللعينة".

لم يكن ثمة خيار أمام كيرنان هنا إلا أن يقوم بإعادة تعويم الأسطول إلكترونياً للاستمرار بالمحاكاة، ولكن هذه المرّة ما فتئت الخليّة البيضاء المكلّفة بالإشراف عليها تتدخّل بسير العمليّات، فقامت بمنع فان ريبر من إسقاط طائرات الإنزال البحري، رغم أن راداراته كانت تراها بوضوح. 

بعد أن سئم الجنرال المتقاعد من الوضع، قرّر "الاستقالة" من قيادة القوات الحمراء، والاكتفاء بتقديم استشاراته حتى نهاية التمرين. حدث ذلك على الرغم من أن كيرنان كان قد قدّم وعداً لفان ريبر بأن تجربة السنة الماضية لن تتكرر، ذلك أن الخلية البيضاء أبلغت الأخير في العام 2001 بأن صواريخ الفريق الأحمر البالستية المدفونة في الأرض تمّ تدميرها باستخدام "تقنيّات فائفة التطوّر" لم توجد في تلك اللحظة. عندما احتجّ فان ريبر، قال له كيرنان إن اللعب في السنة القادمة "سيكون حراً". لاحقاً، قال كيرنان إنه أخطأ في استخدام الكلمات. 

يحلو للمهووسين بالمجالات العسكريّة على الشبكة، من جمهور روايات توم كلانسي العسكريّة، تخيّل سيناريوهات بهذا الحسم والتدمير عند الاستخدام المستمرّ لرواية هذه المحاكاة. لذلك ربّما أخذت المناورة هذه الشهرة، بعيداً من الأهمية العسكرية الواقعية. إن القيمة العسكريّة لهذه المحاكاة، كما يستخدمها المحترفون، تكمن في إظهار الهوّة بين الصورة التي تتخيلها القوات المسلحة الأميركية عن نفسها وقدراتها وتأثيرها الفعلي في أرض المعركة، وتخيّل صورة نمطيّة تقليديّة لعدو "عالم ثالثي" لن يقوم إلا بما سيقوم به أميركي.

يظهر ذلك بوضوح من أحداث المناورة نفسها، حين قيل لفان ريبر إنه يخرج من سياق التمرين، و"لن يقوم أي جنرال عدو بما قمت به"، وفي ذلك بعضٌ من العنصريّة. من جهة أخرى، ولتوخّي الموضوعية، فإن الفريق الأزرق نفسه غيّر من تكتيكات دخوله إلى الخليج بعد الهزيمة الأولى، وهو ما يحقّق أحد أهداف المناورة نفسها. الحرب إذاً مجال فعل وردّ فعل، خطأ وتعلّم، هزيمة وعبرة.

حرب عصابات على الماء

من ناحية البعد التنظيمي، تنقسم القوات البحريّة للجمهورية الإسلامية في إيران إلى فرعين: قوّات حرس الثورة الإسلامية البحريّة وقوّات البحرية الإيرانيّة النظامية. لكلّ منهما منظومة قيادة مختلفة ومنفصلة. أما من ناحية الأساليب والتكتيكات، فهي متداخلة في آن ومختلفة في أحيان أخرى. من جهة، تمثّل القوات البحريّة النظاميّة الذراع التقليديّة لما يمكن أن نتوقّعه من أي قوات بحريّة، أي تشغيل سفن السطح، والغواصات، وسفن التموين الضخمة، والقدرة على التوسّع في "المياه الزرقاء" خارج الخليج. 

من جهة أخرى، تمثّل قوات حرس الثورة البحريّة الذراع غير التقليدية من القوات الإيرانية، والتي يندر أن تجدها في مكان آخر من العالم، بتشغيلها الزوارق السريعة المزودة بالصواريخ والطوربيدات وقوات الإبرار والكوماندوس البحري والمركبات القادرة على زرع الألغام، وغيرها من أساليب حرب العصابات. على صعيد مسرح العمليّات، تتداخل مسارح العمليّات المخصّصة لهما، مع حصر عمل قوات حرس الثورة البحرية في "المياه الخضراء" الضحلة في الخليج.

على الرغم من إطلاقها المستمرّ للقطع البحريّة التقليديّة، وآخرها الفرقاطة "دينا" الخفيفة من طراز "موج"، والتي دخلت الخدمة في 14 حزيران/يونيو من العام الحالي، فإن البحريّة الإيرانيّة، من الناحية الكمّية، لا تتمتّع بقدرات الكثير من دول المنطقة، كتركيا ومصر مثلاً. 

مما لا شكّ فيه أن السبب الأساسي في ذلك هو الحصار الذي تتعرض له الجمهوريّة الإسلامية في إيران، ولكنّ هذا الجانب من القدرات الإيرانية لا يشكّل إلا قسماً من الصورة الكبرى. لو وُجدت البحريّة الإيرانيّة بقطعها المجدّدة بمعظمها في أي مكان من هذا العالم، في ساحل بهذا الطول أمام محيط أو بحر متّسع، لكانت الحكاية مختلفة تماماً. 

في هذا الإطار تحديداً، يؤدي الخليج نفسه دور خطّ الدفاع الأول عن الجمهورية الإسلامية. يتراوح عرض الخليج في أقصى نقطة 340 كلم، وفي أقلّه 55 كلم في مضيق هرمز، وهو ضحل للغاية. يبلغ عمقه الأقصى 90 متراً، والمتوسّط حوالى 50 متراً. بناءً على ذلك، للقطع البحرية الأصغر القادرة على المناورة بسهولة في مياهه أفضليّة؛ تلك التي يصعب على الرادارات اكتشافها لصغر حجمها. 

إن غياب مواجهة بحريّة عسكريّة، ولو بشكل محدود في الخليج، بين القوات الغربيّة ومثيلاتها الإيرانيّة، لا يساعدنا على التنبؤ بالاستراتيجية العامة للقوات البحرية الإيرانية في الخليج، أو خططها العمليّة المتّبعة في حال التصعيد. ما يمكننا فعله هو توقّعها بناءً على الترسانة العسكرية الموجودة لدى القوات البحرية الإيرانية، من المركبات إلى أدوات التوصيل والذخائر، وبناءً على المناورات والمجابهات غير العسكريّة التي حدثت بالفعل في مياه هذا المسطح. 

في ضوء ذلك، تنقسم الأدوات المتاحة الإيرانية إلى عدّة أبعاد أو مستويات:

على المستوى البرّي، تمتلك إيران ترسانة واسعة من الصواريخ الكاشطة للسطح (Sea-skimming)، بدءاً من صواريخ "نصر-1" و"كوثر" ذوات المديات المتوسطة والقصيرة حتى 35 كلم، إلى صواريخ "نور" و"قادر" التي تصل مدياتها إلى 200 كلم في الأول، و300 كلم في الثاني. 

هذا النوع من الصواريخ يطير على ارتفاعات منخفضة للغاية، تعدّ بالأمتار، فوق سطح الماء، ما يساعده في تجنب الرصد بالرادارات المعادية حتى المراحل الأخيرة من الالتحام. يوجّه الصاروخ نفسه بنفسه، إما بصرياً وإما رادارياً، في المرحلة الأخيرة، بحسب الطراز. 

برزت خطورة هذا الطراز بشكل خاصّ بعد إغراق المدمّرة البريطانية "أتش أم اس شيفيلد" (HMS Sheffield) بصاروخ أرجنتيني من طراز "أكزوست" الفرنسي الصنع، أطلق من طائرة "سوبر إيتاندارد" (Super Étendard) في حرب الفوكلاند في العام 1982. تضع قوّات حرس الثورة هذا النوع من الصواريخ على مقصورات متحرّكة وسهلة الإخفاء، تصعّب على المهاجم التعامل معها. 

تمثّل الصواريخ البالستية المضادة للسفن (ASBM) خطراً لا يقل عن خطر الصواريخ المجنحة في ميدان الحرب الحديثة. الجمهورية الإسلامية احترفت صناعة هذا النوع من الصواريخ. هذه الصواريخ بالستية تقليدية دقيقة تمّ تطويرها عبر تغيير نوع جهاز التوجيه لتقوم باستهداف القطع البحريّة. تمتلك إيران بشكل أساسي نوعين من هذه الصواريخ، وكلاهما مطوّرٌ عن صواريخ "فاتح 110" الشهيرة، وهما صاروخا "خليج فارس" و"هرمز" (بطرازيه 1 و2). 

يرجّح من خلال الصور المتوفّرة بأن الأول يستخدم، إضافة إلى توجيهه بالقصور الذاتي، توجيهاً كهروبصرياً نهائياً، فيما يعمل الثاني كصاروخ مضاد للإشعاعات (Anti-radiation)، أي أنه يقوم بتتبع الموجات الرادارية المنبعثة من رادارات القطعة المستهدفة نفسها. 

هذا النوع من المقذوفات، ككلّ المنظومات الحربيّة، يمتلك إيجابيات وسلبيات. تكمن إيجابيّاته في أنه يسقط بسرعات عالية جداً على الهدف، قد تبلغ 4 أو 5 ماخ، تصعّب اعتراضه عبر بعض المنظومات، فضلاً عن أن رأسه الحربي المتفجر أثقل بثلاث مرّات من صاروخ "نور" أو "قادر" مثلاً، إضافةً إلى صعوبة التشويش عليه، نظراً إلى أنه لا يستخدم راداراً خاصاً به. 

أما سلبيّات هذا النوع من الصواريخ، فتكمن في أنه يحلق على ارتفاعات شاهقة تمكّن بعض المنظومات المضادة للصواريخ البالستية من التعامل معه، كما أن قدرته على تصحيح المسار أقل من الصواريخ المجنّحة إذا ما غيّر الهدف باتجاه إبحاره، وكان يسير بسرعة 30 عقدة مثلاً. هو إذاً مثالي للتعامل مع الأهداف الثابتة، البطيئة أو ذات المسار الثابت نوعاً ما. أخيراً، يحتاج إطلاقه إلى إحداثيات دقيقة عبر وسائط استطلاع تملك تواصلاً مع سلسلة القيادة.

من ناحية البعد السطحي، تضم ترسانة البحريّة الإيرانية العديد من الفرقاطات الصغيرة الحجم التي لا تتعدى إزاحتها الألفي طن، منها ما يعود إلى حكم الشاه وتمّ تحديثها، ومنها ما هو صناعة محليّة، كالفرقاطات من طراز "موج"، إضافة إلى عدد من مركبات الهجوم السريعة (FAC) المسلّحة بالصواريخ الكاشطة للسطح المذكورة آنفاً.

في حال اشتعل الخليج، لن تشكّل هذه السفن على الأرجح القوّة الضاربة الرئيسيّة أمام أساطيل حلف شمال الأطلسي الجرّارة، بل من المحتمل أنها ستكون عقدة في حلقة أعقد من الدفاعات والمنظومات المتداخلة في المعركة. ما يخيف الأميركيين وحلفاءهم في الخليج ليست إلا المركبات نفسها التي قد تبدو أقل تهديداً للناظرين بسبب حجمها، والتي لو كنّا في سيناريو مختلف، لكان الظنّ صائباً: إنها الزوارق الصغيرة السريعة؛ تلك التي تمتلك إيران أعداداً هائلة منها، وهي تتنوّع في أصلها وحجمها وسرعتها. أكبر هذه الزوارق هو "ذو الجناح" و"ذو الفقار"، وهما نسخ مصنّعة محلياً مستوحاة من تصاميم كورية شمالية من طراز "آي بي إس" (IPS). 

تستطيع هذه الزوراق حمل صواريخ مجنّحة كاشطة للسطح، مثل "نصر-1"، بإزاحة تتراوح بين 10 و20 طناً، وبسرعة عالية قد تصل إلى 50 عقدة بحريّة، أي إلى ما فوق 90 كلم في الساعة. من جهة أُخرى، يحمل أصغرها مدافع رشاشة ثقيلة وراجمات صواريخ من عيار 107 ملم. هدف هذه الطرازات الأساسي هو عمليّات الإغراق والمضايقة وزرع الألغام البحريّة. 

وقد شكّلت هذه الزوارق إزعاجاً عظيماً للبحريّة الأميركية وحلفائها في جولة التصعيد الأخيرة المستمرّة منذ اغتيال الشهيد قاسم سليماني، كما في السنوات التي سبقت ذلك. ميزتها تكمن أيضاً في قرب قواعدها في بندر عباس، وفي الجزر الإيرانية في الخليج. تصنع الجمهورية الإسلامية هذه الزوارق بشكل مستمر، حتى وصل عددها، بحسب بعض التقارير، إلى بضعة آلاف، فيما يبقى الرقم الحقيقي مجهولاً. 

على مستوى ما تحت السطح، ينشط نوع من الغواصات يعدّ من المخاطر الكبرى التي قد تواجه البحريّة الأميركية في حال اندلاع المواجهة، وهي "الغوّاصات القزم" (Midget submarine). هذه المركبات الصغيرة لن تجد مكاناً أفضل لها للعمل من قعر الخليج في هذا العالم، إذ إن مياهه تعتبر غير صديقة لأنظمة السونار.

غوّاصة "غدير" القزم تمتلك طاقماً مكوناً من 7 بحارين فقط لا غير، وهي بإزاحة 125 طناً. يمنح عمق الخليج الضحل هذه الغواصات القدرة على العمل بشكل شبه خفي، إذ يمكنها، إضافة إلى صغر حجمها، أن تزيد في صعوبة كشفها بالإبحار إلى جانب القعر. وعلى الرغم من حجمها الصغير، فإنها تتمتّع بقدرة ناريّة لا يستهان بها، فهي تستطيع إغراق قطع بحرية بإزاحة آلاف الأطنان، باستخدام ترسانة متنوّعة من الأسلحة، كطوربيدات من عيار 533 ملم، مثل "حوت"، التي تبلغ سرعتها 4 مرات سرعة الطوربيدات العاديّة، نظراً إلى عملها بتقنيّة "التكهّف الفائق" (Super Cavitation)، كما طوربيد "ذو الفجر" الحديث الذي يعمل بطريقة تقليدية، أي باستخدام التوربينات والزعانف.

تستطيع هذه الغواصات أيضاً إطلاق الصواريخ المجنّحة المضادة للسفن من طراز "جاسك" المطوّر عن صاروخ "نصر-1"، فيصبح بالإمكان إطلاقه من تحت السطح، إضافة إلى قدرتها على نصب الألغام البحريّة بخفاء أيضاً. لا يُعلم عدد الغواصات التي تمتلكها إيران من طراز "غدير"، ولكنّه يتراوح بين 20 و25. تمتلك إيران أيضاً 3 غواصات هجومية روسية تحركها بمحركات كهربائية تعمل بالديزل من طراز "كيلو" الأكبر بإزاحة 3000 طن. كما قامت بإدخال غوّاصة "ناصر" الخدمة في العام 2019، وهي غواصة بإزاحة بين 500 و600 طن، تمتلك القدرة على حمل ترسانة الأسلحة نفسها، ولكن بأعداد أكبر.

خاتمة

يظهر مما سبق أن الجمهورية الإسلامية في إيران تمتلك القدرة على فرض حظر الوصول ومنع الدخول (A2/AD) إلى مناطق واسعة من الخليج، في حال نشوب نزاع مسلّح مع خصومها في المنطقة، فهي، وإن لم تستطع منعهم بشكل كامل من الدخول إلى الخليج، إلا أن قدراتها تمكّنها من تحويل هذا التواجد إلى كابوس مكلف، كما تستطيع عرقلة حركة أساطيل العدوّ والحد منها بنسبة كبيرة. يساعدها في ذلك اعتماد الدول الغربية التي من يُحتمل أن تشارك بتحالف ضدّها بشكل رئيسي على القطع البحريّة الضخمة، في محاولة للاستمرار بفرض هيمنتها على هذا المسطح المائي. 

مما لا شكّ فيه أن القوّات البحريّة للأساطيل الغربيّة تمتلك منظومات مضادّة لكلّ نوعٍ من هذه الصواريخ والمقذوفات والألغام التي ذكرناها سابقاً، منها منظومات الخداع (Decoy) والتشويش (Jamming) أو أنظمة الدفاع النشطة (APS)، إلا أن المعركة في ميدان حرب معقّد ينشط فيه جمع مختلف منظومات الأسلحة الهجوميّة، تخلق احتمالات دائمة التغيّر. 

بمعنى أبسط، يمكننا مثلاً تخيّل سيناريو تتعطّل فيه مجموعة زوارق سريعة أو غواصات قطعة بحرية ما، وتقوم بنقل إحداثياتها إلى منظومة ساحلية من الصواريخ البالستيّة المضادة للسفن، فيتم تجاوز ضعف قدرة الأخيرة على المناورة. في سيناريو آخر، يمكن للغمٍ أن يضرب قطعة بحريّة أخرى، فتتعرض لهجوم بصواريخ مجنّحة، أو تتوجه الغواصات الصغيرة نحوها لإغراقها. في سيناريو أخير، يمكن لهجوم بصواريخ الزوارق الحربيّة الصغيرة غير الموجهة من عيار 107 ملم، يتزامن مع هجوم بالصواريخ المجنّحة، إغراق رادارات القطعة أو القطع التي تتعرض للهجوم، وغيرها من الاحتمالات التي تفتح آفاق اشتباك لا حصر لها.

سيكون من غير الواقعي أن نفترض أن الجمهوريّة الإسلامية قادرة على هزيمة أكبر قوّة بحريّة في العالم بالمعنى الكميّ للعبارة، إذ إن "بحريّة الولايات المتحدة" تملك حمولة بحرية بالأطنان تساوي تقريباً حمولة الدول الثماني التي تليها بالترتيب، إلا أن الحرب في هذا السياق لم تجر يوماً عبر مفهوم التناظر الكميّ حصراً. 

لا لبس في أن البحريّة الأميركيّة قادرة على تحقيق الانتصار المتمثّل بالسيطرة على الخليج وتأمينه على المدى الطويل، إلا أن الكلفة والمدة ليسا رقمين قابلين للتقدير، حتى في أكثر عقول الجنرالات الأميركيين تفاؤلاً. خلف كلّ شجرة، تنظر جمهورية الصين الشعبيّة نظرة ترقّب لأعمال الولايات المتحدة الأميركية. ومن المستبعد أن تتدخل الأولى في نزاع عسكري في بلادنا، ولكن ذلك لا يعني أنها ستبقى مكتوفة اليدين في محيطها الإقليمي؛ في بحر الصين وتايوان. في هذه الأيام التي تجاهد الولايات المتحدة فيها في الحفاظ على انتشارها المناسب في المكان المناسب، ونقل بعض من قوتها بشكل تدريجي نحو الشرق، ماذا سيكون مآلها لو علقت في مستقنعٍ آخر في بلادها قد يفقدها واحدة أو أكثر من "مجموعات حاملات طائراتها"(CSG) ؟

 

علي جزيني  ـ الميادين

 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل