بين الاستسلام والمواجهة ... مسار حتميّ

السبت 09 تشرين الأول , 2021 10:56 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

تحت وشاح السّلام تُمَرَّر أخطر قرابين المؤامرات حبكةً، هي باطلٌ يأتي بلبوس الحقّ لينتزع من الشّعوب خيراتها، ويدمغ حركتها ب "التّلبّد، ويفرض عليها الإذعان والخضوع، فتُفَرَّغ من قوام البناء الاجتماعيّ، الاقتصاديّ، الثّقافيّ والعلميّ... فتمسي بين سدّان العيش الملطَّخ بالاستسلام، ومطرقة المواجهة المعجونة بالصّراع الشّاقّ. 

المواجهة تبتدئ بخلق مسارات الوعي الوطنيّ من أضيق البيئات الاجتماعيّة إلى أكثرها انفتاحًا وتبنّيًا لمفاهيم "التّمدّن" المصنوعة في كواليس التّحضير لمعادلة "السّلام" المسمومة.

إذ تصتدم عمليّة خلق الوعي الوطنيّ بعدّة عقبات رئيسيّة:

أوّلًا، كيفيّة توحيد الهويّة الوطنيّة الجامعة في بلاد شلّعتها الانتماءات الطّائفيّة، المذهبيّة والمناطقيّة، وفرض نسق اجتماعيّ يؤدّي إلى التّفاعليّة بين أبناء الشّعب الواحد في كافّة شؤونه ومسائله الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، الثّقافيّة، العلميّة والبيئيّة.

ثانيًا، توحيد المنهاج التّعليميّ في المدارس تكون الهويّة الوطنيّة الجامعة معياره الأوحد، واعتماد طرائق علميّة تعليميّة تبتعد عن أساليب التّلقين، وتعتمد تدريب العقل على التّكفير بذهنيّة علميّة، ما يخلق حيّزًا لبناء التّراكم العلميّ في مقاربة المسائل، كمقدّمة لتعزيز مسارات البحث العلميّ وفتح آفاق معرفيّة تعود بالنّفع على الوطن ككلّ.

ثالثًا، اعتماد آليّة واضحة ومدروسة تفضي في نهاية المطاف إلى توحيد التّعليم في المدرسة الحكوميّة أو الرّسميّة، ولعلّ أولى خطوات هذه الآليّة يبدأ بتحويل اسم المدارس التّابعة للدولة من "المدرسة الرّسميّة" إلى "المدرسة الوطنيّة".

رابعًا، تقديم النّموذج الأخلاقيّ والوطنيّ على كافّة الصّعد من القوى الوطنيّة والقوميّة في البلاد، والوقوق إلى جانب النّاس، وتقديم الحلول العمليّة لمشاكلهم، دونما الوقوع في فخّ التّمييز بين من يُحسب على خطّنا السّياسيّ ومن لا يُحسب عليه. 

خامسًا، إنّ الرّابط الاقتصاديّ هو الرّابط الاجتماعيّ الأهمّ، والاقتصاد هو المحرّك الأساسيّ - وقد يكون الوحيد - لاستراتيجيّات الدّول وحروبها فيما بينها، فالتّحوّل من النّمط الاستهلاكيّ إلى الإنتاج بات حتميّة عالميّة لا تقتصر على شعبنا في لبنان فحسب، فهذا التّحوّل يحتاج إلى تفعيل قطاعات الإنتاج الزّراعيّة، الحرفيّة، الصّناعيّة والحيوانيّة عبر تخطيط علميّ يستند إلى دراسات ومسوحات ميدانيّة للأرياف خصوصًا، يتولّاه مختصّون من الجهات الرّسميّة أو القوى الوطنيّة، يضعون الآليّات الصّحيحة للعمل، باعتماد توزيع الرّبح على قدر الإنتاج، ويعمدون إلى تأمين مستلزماته، ما يؤمّن الأمن الغذائيّ للمواطن، ويساعم بخلق فرص عمل ويعزّز التّفاعل بين البيئات الاجتماعيّة. 

سادسًا، المواجهة تحتاج إلى قرار وفعل، إلى إظهار القوّة واستخدامها طورًا، والتّلويح بها طورًا آخر، فلا يحمي الحقّ في العراك سوى القوّة، من هنا يجب اتخاذ القرار الّذي يؤرق الأعداء والخصوم ويخيفهم، فالهدف هو درء الويل عن شعبنا مهما اعترضه من مشاقٍّ وصعوبات، ما يفتح ثقبًا في جدار المواجهة، لا يكون القرار فيه ورقة ضغط لتعزيز موقف في التّفاوض، أو مكسب سياسيّ يُستثمر في الانتخابات النّيابيّة أو التّمثيل الوزاريّ، بل مدماك فعل يؤسّس لمسار طويل من انتزاع الحقوق لا استجدائها، والأمثلة كثيرة على ذلك، فتحرير جنوب لبنان لم يكن لولا قرار المقاومة وفعل البطولة، وعلى نقيضه لم تُعد "أوسلو" شبرًا واحدًا من فلسطين، ولم يستطع المزارعون في الأردن من ريّ مزورعاتهم من دون موافقة "الكيان الغاصب" الّذي يحتكر 75% من ماء نهر الأردن على أن تُضخّ حصّة الأردن من الدّاخل المحتلّ بموجب اتفاقيّة "وادي عربة". 

سابعًا، "السّياسة ابنة التّاريخ، والتّاريخ ابن الجغرافيا"، فما يفرض احترامنا لخصومنا هو تعاملهم مع بلادنا بحقيقتها الجغرافيّة، في حين أنّ جزءًا لا يستهان به من شعبنا يرفض مكابرًا هذه الحقيقة، وبهذا يسدّد الأعداء والخصوم الويلات تلوى الأخرى لشعبنا، بحيث لم يعد يكفي الاعتراف بسطوة الجغرافيا على المشهد العامّ في البلاد، بل أنّ العمل والتّخطيط يجب أن يرتقي لهذا الدّرك، فأهالي البقاع الغربيّ يرتبطون بدمشق في الاقتصاد، والاجتماع البشريّ والمصاهرة أكثر مما يرتبطون بطرابلس الشّام، كما أنّ شعبنا في طرابلس الشّام بدوره يتفاعل مع الشّعب في مدن السّاحل الشّاميّ من بيروت إلى اللّاذقيّة أكثر ممّا يتفاعل مع الدّاخل اللّبنانيّ في النّبطيّة ومرجعيون، وهذا يثبّت حكم الجغرافيا على حركة النّاس ومصالحهم أينما وجدوا، فمصلحة شعبنا في لبنان، كما مصلحة شعبنا في سوريا تفرض التّعاون والتّكافل والتّفاعل على أعلى المستويات، ولا سيّما الاقتصاديّة منها، بعيدًا عن مماحكات السّياسة وكيديّات الانعزال.

إذًا، هي أسلوب حياة، وفعل وممارسة، ينطلق من الإيمان الرّاسخ بقدرة شعبنا على تخطّي كلّ أزمنة الصّعاب، ويُحقَّق بالإرادة والعمل والقوّة، ليحصد مكانًا ثابتًا في معترك الأمم، فالخلاص لا يُبحث عنه إلّا في الشّعب وعبره.


بهجت سعيد

 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل