نظرات في الإعجاز القرآني ... الآية الأخيرة من سورة المزمل

الأربعاء 17 آب , 2022 11:51 توقيت بيروت إسـلاميــّـــات

الثبات - إسلاميات

من أهم الأمور في تطهير القلوب والنفوس الصلاة في جوف الليل، حيث لا أصوات ولا ازدحام في شؤون الدنيا، وهذا ما أكد عليه سماحة الشيخ الدكتور عبد الناصر جبري رضوان الله عليه في تفسير قوله تعالى:

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل/20]: إذاً الحكم أن قيام الليل بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم والطائفة الذين معه من آل البيت العظام والأصحاب الكرام غير محصور بهم, فينبغي أن يقوم المؤمنون الليل يتهجدون ويتبتلون إلى الله سبحانه وتعالى, وعن أم المؤمنين فيما روت عن كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر عندما سألها ابن عباس و سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ فتجيبهما: [أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟, قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ, قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي، فَقُلْتُ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟, قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ], وهذا القيام لا يكون إلا مع الله سبحانه وتعالى, ومع كتابه الكريم, وذكر نبيه العظيم, ودارساً لحديثه صلى الله عليه وسلم, ليمنح هذا القائم نورانية لا يمتلكها إنسان غيره, وقد مدح هذا القائم بقوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات/18], وقال تعالى في موضع آخر: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة/16], وقد جاء التقدير في الآية السابقة بالفعل (يقدر)؛ من أجل معرفة المؤمنين بأن القيام سيكن مستمر وليس لزمان واحد أو شخص بذاته, فهو فعل مضارع يدل على الاستمرارية, وهذه من البلاغة الطيبة والجميلة, علم الله أننا لن نستطيع قيام الليل بأكمله فجاء التخفيف من عنده تعالى, ليكون هذا القيام بذكر آيات قصيرة استدلالاً بقوله (ما تيسر), وهذا ما استدل به بعض الفقهاء ومنهم الإمام الشافعي في وجوب تلاوة القرآن الكريم على ما تيسر, أما في حالة المرض فاللإنسان رخصة من الله سبحانه وتعالى في عدم قيام الليل, والمرض هنا قد يكون مرض جسدي وهذا شيء بسيط وزائل بإذن الله أمام المرض الآخر وهو المرض القلبي, وهو خطير جداً على الإنسان؛ ومنه قوله تعالى:{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة/10], وقال صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ], وهناك أيضاً من يطلب رزقه ويضرب في الأرض, فهو يحرث ويزرع وهذا كله متعب ويحتاج إلى راحة, وهناك أيضاً من يجاهد في سبيل الله, والجهاد يكون بالذود عن الأرض والعرض, ولا يكون بالقتل, فالله سبحانه وتعالى حرم القتل؛ ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء/33], وقوله صلى الله عليه وسلم: [المُؤمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، فَلَا يَحِلُّ لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ], فهذه أمور بسيطة أمام الأمر العظيم وهو القتل, وحرم القتل لأن هذه الحياة هبة من الله سبحانه وتعالى, فلا يجوز لك أن تأخذها من أحد, ليأتي بعدها التخفيف ثانية في القراءة وعدم الإطالة, والأمر أيضاً بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وقد استدل العلماء هنا إلى أن هذه الآية مدنية؛ لأن الزكاة فرضت في المدينة, وبذلك نقطع شيئاً من مالنا ونقدمه للفقراء, وهذا كله في ميزان أعمالنا؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة/111], وقال أيضاً في موضع آخر: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية/15], وأخيراً يأتي الإستغفار, ويكون بصفتين:

الأولى: وهي باللسان والجوارح, وهي ذكر صفة الإستغفار؛ ومنه قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح/10].

الثانية: وهي بالفعل, فينتهي عما كان يقوم به من ذنوب وأخطاء, ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى؛ ومنه قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة/114].

وبعد هذا الاستغفار كن واثق بأن الله سيغفر لك هذه الذنوب, ولكن إذا صدقته وعدك, وعبدته حق عبادته.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل