لعبة القط والفار بين أميركا واليسار - عدنان الساحلي

الجمعة 04 تشرين الثاني , 2022 10:13 توقيت بيروت أقلام الثبات

 

أقلام الثبات

شكل فوز الرئيس البرازيلي اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (77 عاماً)، على منافسه الرئيس المنتهية ولايته، رجل الولايات المتحدة في البرازيل، جائير بولسونارو، حدثاً بحد ذاته. فبعد أقل من ثلاث سنوات على إطلاق سراحه من السجن، الذي دخله بتهمة مزورة بالفساد، تم انتخاب دا سيلفا رئيسا للبرازيل، لمرة ثالثة، في بلد هو الأكبر في أميركا اللاتينية، المنطقة التي تعتبرها الولايات المتحدة حديقتها الخلفية، لذلك لا ترضى عن وجود أنظمة فيها غير تابعة لسياساتها؛ ولا تأتمر بأوامرها.

بهذا الفوز، حقّق اليسار البرازيلي إنجازاً كبيراً، في انتخابات كانت بمنزلة استفتاء شعبي على فترة حكم بولسونارو، الذي اتسم بتسلطه ومحاباته دوائر المال والأعمال، على حساب الفئات الفقيرة. كما شكل جولة خسرتها الولايات المتحدة في لعبة تشبه لعبة القط والفار، تمارسها بحق كل نظام أو حاكم يخرج بلاده عن طوعها وعن هيمنتها وفرضها التبعية السياسية والإقتصادية لبلاد العم سام.

ويبدو أن "ربيع اليسار" عاد إلى أميركا اللاتينية، بعد أن حلّ خريفه السياسي منذ أقل من عقد، عندما انضمت البرازيل عام 2016 إلى الأرجنتين وفنزويلا، بعد سقوط الأنظمة المصنفة يسارية فيها. عاد دا سيلفا إلى سدة الرئاسة في البرازيل، بعد أن حُكم عليه سنة 2018، بـ 12 سنة سجناً، عقب إدانته بتهم فساد، لكن المحكمة العليا الغت الحكم بسبب أخطاء شابته. وبرأي أنصاره كان الهدف من عزل الرئيسة السابقة ديلما روسيف (2016) وسجن دا سيلفا، إزاحة اليسار عن مواقع السلطة والقرار، وتشويه سمعه قياداته شعبياً، بعد أن نجح حكمها في إعادة المسألة الاجتماعية إلى الواجهة، باعتبارها عصب الصراع السياسي، ليس فقط في البرازيل ولكن في عموم أميركا اللاتينية، ففي أثناء ولايته الرئاسية الأولى (2003 - 2010) نجح دا سيلفا في جعل البرازيل قوة اقتصادية صاعدة؛ ونهج سياساتٍ اجتماعيةً مكّنت أكثر من 30 مليون شخص، من الفئات الفقيرة، من الالتحاق بالطبقة الوسطى، في ما اعتُبر إعادة صياغة للتوازنات القائمة، في بلد يُمثّل فيه اليمين المحافظ قوة اجتماعية كبيرة. وهو ما لم تستسغه القوى الاجتماعية المحافظة، التي سعت إلى إجهاض تجربة اليسار والالتفاف على مكاسبها.

لم تقتصر خسارة رجل وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، بولسونارو، على شخصه وفريقه وأنصاره وحدهم، بل إن امتداداتها وصلت إلى الولايات المتحدة، لأن خبر فوز لولا سيزعج المحافظين الجمهوريين، خصوصاً الرئيس السابق دونالد ترامب ودائرته المقربة، فبولسونارو اليميني، كان حليفاً قوياً لترامب، الذي قدم مع عدد من القيادات الجمهورية، كل سبل الدعم والمشورة لبولسونارو، طوال الفترة السابقة.

هذا النجاح اليساري في البرازيل، لا سيما بعد تراجع اليمين اللافت في هندوراس وبوليفيا والأرجنتين وتشيلي وكولومبيا والبيرو. هو جزء من موجة يسارية حالية، تهدد مصالح اليمين المحلي، التي تلتقي مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية، في ممارستها سياسة الهيمنة والإستتباع مع مختلف الدول. وفي مطاردتها طوال الحقب الماضية، كل نظام أو حاكم يخرج عن الولاء لها ويمارس سياسة مستقلة، تنحو إلى تنمية بلاده وإخراجها من كونها مجرد حديقة خلفية للأميركيين، أوجمهورية موز يستغلونها غير مبالين بمصالح شعبها

انتصار لولا الذي شغل فترتين رئاسيتين سابقتين، من 2003 إلى 2010، في انتخابات اعتبرت مصيرية، لأنها أزاحت اليمين الحاكم إلى صفوف المعارضة لأربع سنوات قادمة، في بلد يعد رابع أكبر ديمقراطية في العالم، ضمت لولا إلى فريق من القادة الذين تفوقوا على قوى اليمين في السنوات الأخيرة، في أميركا اللاتينية، هو ما يخيف اليمين من أن يتحوّل فوز أحزاب اليسار هناك، إلى حالة معادية تعيد تشكيل الإقليم، ليصبح جزءاً من تكتّلٍ دوليٍّ مناهضٍ لسياساته؛ تكتل تتخطّى حدوده أميركا اللاتينية نحو الصين وروسيا والهند ودول أخرى، بما قد يُفضي إلى تغيير في التحالفات والتوازنات الاقتصادية في العالم، في ظل ما تزخر به هذه البلدان من موارد بشرية واقتصادية هائلة، لكنها ترزح تحت الفقر.

هذه العودة لداسيلفا بعد تغييبه القسري، تذكرنا بما فعلت الولايات المتحدة بامثاله، خصوصاً في فترة الخمسينيات والستينيات اثناء الحرب الباردة، التي يبدو أنها ما تزال قائمة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تعاقب كل نظام أو حاكم يمارس سياسة إستقلالية، حتى لو لم يكن يسارياً أو شيوعياً. وهذا يذكرنا بما تعرضت له الأنظمة العربية التي رفضت الخضوع للسياسات الأميركية، من مصر عبد الناصر إلى ليبيا القذافي وسورية الأسد. بل وإلى نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تعاقبها أميركا وتحاربها، منذ لحظة إنتصارها على حكم رجل أميركا الشاه محمد رضا بهلوي. وكذلك إلى ما تعرض له القادة الوطنيون في إفريقيا أمثال أحمد سيكوتوري وفي آسيا، الذين نفذت المخابرات الأميركية إنقلابات بحقهم، لقوا حتفهم فيها. وسبق أن أورد الصحافي العربي محمد حسنين هيكل، في أحد مقالاته، أن الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر، حذر في حينه رئيس وزراء باكستان ذو الفقار علي بوتو، من أن الولايات المتحدة تخطط للانقلاب عليه وقتله. وهذا ما جرى له على يد قائد الجيش ضياء الحق. وهذه الأيام نشاهد الدولة العميقة في باكستان وركيزتها مؤسسة الجيش، تتآمر على رئيس الوزراء السابق عمران خان، الذي تعرض أمس لمحاولة إغتيال أصيب فيها بقدمه.

وهذا المسلسل من التآمر الأميركي ضد الأنظمة المستقلة، في أميركا اللاتينية والعالم أجمع، الذي تتأرجح فيه الدول بين خيارات اليمين واليسار، يفتح صفحة الإنقلاب على الرئيس الإشتراكي المنتخب سلفادور الليندي في تشيلي وقتله في جريمة بشعة (1973)، فلم تزل آلاف النساء يتظاهرن هناك، مطالباتٍ بمعرفة مصير أبنائهن، الذين اختفوا في عهد حكم قائد الجيش، الجنرال الديكتاتور ورجل أميركا أوغستو بينوشيه. ولا يمكن نسيان ما تعرضت له كوبا فيديل كاسترو ومحاولات غزوها وأزمة الصواريخ الشهيرة (1962). ولا حصار أميركا لكوبا المستمر منذ ستة عقود ومحاولاتها التي لم تتوقف لإغتيال كاستروا، حتى وفاته. فيما تمكنت من قتل رفيق دربه تشي غيفارا(1967). كما حاصرت أميركا فنزويلا وحاربت رئيسها السابق هوغو شافيز، الذي رفع شعار البوليفارية تأسيساً على أفكار سيمون بوليفار، الذي قاوم الهيمنة الإسبانية وقضى سنوات يكافح من أجل توحيد القارة. ومن ثمار الخروج على طاعة الأميركيين، أن الرئيس اليساري الجديد لكولومبيا غوستافو بيترو؛ ونظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو، أعلنا مؤخرا عن إعادة العلاقات الدبلوماسية؛ وأنهما سيلتقيان بعد طول فراق البلدين.

ليست هذه المرة الأولى التي نجد فيها موجة يسارية في أميركا اللاتينية. لكن التدخلات الأميركية كانت تمنع مسيرة الدول في التحرر والتنمية. وآخر نماذج تلك التدخلات ما يجري في أوكرانيا حالياً، حيث تتصدى روسيا لسياسة ضم دول أوروبا الشرقية لحلف "الناتو". فهل تشكل هذه الحرب مناسبة لوقف سياسات الهيمنة الأميركية وتنعم دول أميركا اللاتينية بالهدوء، أم ستستمر سياسة الانقلابات الأميركية على سابق عهدها.

  

 

 

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل