فتحُ مكة .. نصرٌ عظيم وفتحٌ مبين

الإثنين 10 نيسان , 2023 04:07 توقيت بيروت إسـلاميــّـــات

الثبات ـ إسلاميات

عرَف شهر رمضان عبرَ تاريخ الإسلام عددًا من الأحداث، من أهم هذه الأحداث حَدَثُ فتح مكة، وهو الحدث الذي أعزَّ الله عز وجل به الإسلامَ والمسلمين، وبه دخل النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْـوَاجًا، وبه أصبحت مكة دار إسـلام، بعد أن كانت دارَ كفرٍ وشركٍ؛ ولهذا يُسمِّي أهلُ السِّيَر هذا الحَدَث بالـفتح الأعظم[1]، وبـفتح الـفتوح.

ولأهمية هذا الحدث في الدلالة على التمكين للإسلام والمسلمين، نجده ممجَّدًا في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال تبارك وتعالى ممتنًّا على نبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1] والمفسـرون على أن الآية في صُلْح الحديبية، غير أنه لما كان صُلْح الحديبية سببًا ممهدًا لـفتح مكة سُمِّي بالفتح، وذلك باعتبار المآل[2]، وكذلكم نجد هذا الحدث ممجَّدًا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث: ((لا هِــجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ))[3]، في إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى العزة والقـوة التي حظي بها الإسلام والمسلمون بعد فتح مكة.

وقد وقع هذا الحدث في العشرين من رمضان من الـسنة الثامنة للهجرة، وسبَبُه ما كان من نقض قريش للعهد الذي كان بينهم وبين المسلمين؛ إذ كان من بنود صُلْح الحديبية، أن تتـوقَّف الحرب عشر سنين، فيها يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم، وأنَّ مَن أحَبَّ أن يدخل في عقد المسلمين وعهدهم فله ذلك، ومَنْ أحَبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فله ذلك، فدخلت خُزاعة في عهد المسلمين، ودخلت بنو بكـر في عهد قريش.

الذي وقع هـو أن بني بكـر أغـاروا على خُزاعة ليلًا بمكان يقال له "الوتير"، وقتلـوا عددًا منهم، وذلك بدعم من قريش التي أمدَّتْهم بالخيل والـسلاح والرجال، فنقضت بذلك قريش العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين.

فخرج رجل من خُزاعة يقال له "عمرو بن سالم الخزاعي" في أربعين رجلًا من قومه، وتوجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستنـصره، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال:

يَا رَبِّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا 
حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا 
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدَا 
ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا 
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا 
وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا 
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا 
إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا 
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا 
إنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا 
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُوَكَّدَا 
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصَّدَا 
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدًا 
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا 
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا 
وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا 

 

فلما انتهى قال له رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْن سَالِمٍ، لا نصرني الله إن لم أنصُـرْ بني كعب))، ثُمَّ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَانٌ مِن السَّمَاءِ، فَقَالَ: ((إنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ))[4]، ثم توالت أحداث هذا الــفتح.

 

وهنا أقف وقفة أُبيِّن فيها أهمية هذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يكشف لنا عن عظيم الـمبادئ الأخلاقية التي جاء يدعو إليها عليه الصلاة والسلام؛ حيث إن نـصرة المظلوم تعتبر من الـمبادئ السامية التي جاءت تـؤكد عليه شريعة الإسلام، باعتبارها وسيلةً هامةً من وسـائل إقامة الـعدل بين الناس؛ حيث نقرأ في كتاب الله تعالى قوله الكريم: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، وإنه من صور التعاون الواجب بين المسلمين، الـتعاون على نصرة المظلوم؛ لأن المسلم كما هو مطالب بدفع الظلم عن نفسه مطالبٌ كذلك بدفع الظلم عن غيره، وفي الحديث: ((المُسْلِمُ أَخُـو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ))[5].

 

ومما نقرؤه أيضًا في كتاب تعالى قوله الكريم: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]، والآية واضحة في الدلالة على وجوب نصـرة المظلوم؛ بل ذهب مالك رحمه الله إلى أنه إذا كان هناك أسير مسلم في يد عدوٍّ للمسلمين، فإنه يجب اسـتنقاذه، إما بالـقتال إن كان ذلك ممكنًا، أو بدفع الأموال في سبيل ذلك[6].

 

أما الأحاديث الـواردة في هذا الباب فهي كـثيرة جدًّا، منها: حديث البَرَاء بْن عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ، وذكـر منها: ونَصْرَ المَظْلُومِ[7]، ومن هذا الحديث قال الفقهاء: إن نـصر المظلوم فرضٌ واجبٌ على المؤمنين على الكفاية؛ أي: مَن قام به سقط عن الباقين، غير أن ذلك يتعيَّن في حقِّ السلطـان، أو نائبه، وكل من له قدرة على نصرته[8].

 

ومن الأحاديث الواردة في الباب كذلك، حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُـولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَدْعُـو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً، فَجُلِدَ جَلْدَةً وَاحِدَةً، فَامْتَلَأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ، قَالَ: عَلَامَ جَلَدْتُمُونِي؟ قَالُوا: إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَـلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَمَرَرْتَ عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ))[9].

 

ومن المعلوم أن العقـاب لا يكون إلا مِن ترك واجب، أو من فعل شيء مُحرَّم منهي عنه. والواجب المتروك هنا: هـو الطهارة التي هي شرط في صحة الصلاة، ونصـرة المظلوم التي هي من أوجب الواجبات، وفي الحديث: ((مَا مِنَ امْـرِئٍ يَخْذُلُ امْرأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ))[10]، فهذه النـصوص وغيرها كثيرٌ، كلها تشهد بوجوب نصـرة المظلوم.

 

ونصرة المظلوم تجب بغض النظـر عن جنس أو عِرْق أو ديانة هذا المظلوم؛ لأن مبدأ العدل مبدأ إنساني، لا يختص بأهل ديانة دون سواها؛ ولهذا كانت دعوة الــمظلوم مستجابةً وإن كان كافـرًا، ففي الحديث: ((ثَــلاثٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَالـصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَـرْفَعُهَا فَـوْقَ الغَمَامِ، وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَــقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِـزَّتِي لأَنْــصُرَنَّك وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ))[11]؛ بل نجد في كتب التاريخ والسِّيَر حدثًا يُسمَّى بحلف الفضـول، وهـو حلف عقد بين عدد من أعيان مكة، بهدف نـصرة المظلوم؛ حيث إنه قدم مكة رجلٌ من اليمن ليبيع تجارته، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي، فلما طالبه الرجل بالثمن أبى، واستهزأ به، فنادى الرجل في الناس بأعلى صوته قائلًا:

يا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضاعَتُهُ 
بِبَطْنِ مَكَّةَ نائي الدَّارِ والنَّفَرِ 
ومُحْرِمٍ أَشعَثٍ لم يَقْضِ عُمْرَتَه 
يا لَلرِّجالِ وبَيْنَ الحِجْرِ والحَجَرِ 
إنَّ الحَرامَ لمنْ تَمَّتْ كرامتُه 
ولا حَرامَ بِثَوْبِ الفاجِرِ الغُدَرِ 

 

فقام الـزبير بن عبدالمطلب، وقال: ما لهذا مَتْرَكٌ، فجمع عددًا من أعيان مكة في دار عبدالله بن جُدْعان، واتفق معهم على نصرة المظلوم، حتى قال قائلهم:

إنَّ الْفُضُولَ تَحَالَفُوا وَتَعَاقَدُوا 
أَلَّا يُقِيمَ بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَالِمُ 
أَمْرٌ عَلَيْهِ تَعَاهَدُوا، وَتَوَاثَقُوا 
فَالْجَارُ وَالْمُعْتَرُّ فِيهِمْ سَالِمُ[12] 

 

وقد شهد صلى الله عليه وسلم هذا الحِلْف مع أعمامه، وكان وقتها شابًّا لم يتجاوز العشرين، حيث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ))[13].

 

مع العلم أن نصرة المظلوم لا تعني بأي حال من الأحوال، تجاوزَ الحدِّ في نصرته، ولا التعدِّي ومخالفة الشـرع، ولا تجاوز القوانين، ولا ما أقـرَّه ولاةُ الأمور، ولا أدل على ذلك من كـونه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة لم يهدِم بيتًا، ولم يقتل طفلًا، ولا شيخًا، ولا امرأةً، ولم يـُفسِد زرعًا، ولم ينتهك حرمة، ولا غير ذلك؛ بل قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُـوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ الـسِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ))[14]؛ بل لما بلغته مقالة سعد بن عبادة رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، قال عليه الصلاة والسلام: ((كَذِبَ سعْدُ، إنه يوم يُعظِّم اللهُ فيه الكعبةَ، ويوم تُكْسَى فيه الكعبة))[15]؛ بل أصدر صلى الله عليه وسلم عفـوًا عامًّا على كل من ظلمه وآذاه في نـفسه، أو أهله، أو ماله، أو أصحابه، وقد سجَّل التاريخ كلمته المشـهورة: ((يَا مَعْشَرَ قُـرَيْشٍ، مَا ترَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟)) قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: ((اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ))[16]، فكان فتح مكة عنـوانًا لإقامة العدل بين الناس، ورمزًا للعفـو والصفح والتسامح بين الخلق أجمعين.


 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل